تحيي تونس، اليوم الاثنين، الذكرى الثامنة لنجاح ثورتها وخلع نظام زين العابدين بن علي، الذي فرّ في 14 يناير/ كانون الثاني 2011 إلى السعودية بعد أسابيع من الاحتجاجات الشعبية. تحلّ الذكرى في وقتٍ تحتل فيه تونس المرتبة الأولى في مؤشر الديمقراطية بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، من مجموعة البلدان العربية والإسلامية، في تصنيف صادر منذ أيام عن مجلة "إيكونوميست" الإنكليزية، فيما حافظت على المرتبة 63 عالمياً في مؤشر الديمقراطية، بحسب التقسيم الذي أعدّته وحدة الاستخبارات والمعلومات التابعة للمجلة.
في هذا السياق، اعتبر الأستاذ في علم الاجتماع السياسي عبد الوهاب حفيظ، أن "وضع تونس يُعدّ عاملاً مميزاً لنجاح الانتقال الديمقراطي والانتخابات بمختلف أطوارها التشريعية والرئاسية والبلدية، والتي تميّزت بالتعددية وتنافس الأحزاب والمستقلين إلى جانب التطور في مجال الحريات المدنية وتطور التشريعات والممارسة والمشاركة رغم النقائص والاختلالات". وأضاف في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أن "عملية تقييم الحالة الديمقراطية تستند على 60 مؤشراً تتجمّع في خمس فئات مختلفة، وهي العملية الانتخابية والتعددية والحريات المدنية وأداء الحكومة، والمشاركة السياسية والثقافة السياسية".
ولفت حفيظ إلى أنه "على الرغم من الصعوبات الاجتماعية والاقتصادية التي تمرّ بها البلاد، فإن كسب الديمقراطية والحرية بعد الثورة، يُعدّ ورقة يفتخر بها التونسيون". ونوّه بأن "مرور ثماني سنوات لم يزد الثورة التونسية إلا صلابة وتقدماً على الطريق الذي اختاره التونسيون، على الرغم من بطء ذلك وحالات التنافس التي تعطل هذا المسار أحياناً".
بدورهم، أجمع عدد من الناشطين الذين اقترنت أسماؤهم بأيام الثورة، في أحاديث لـ"العربي الجديد"، على وجود إنجازات تحققت، لكنهم لا يقللون من أهمية الإخفاقات والعثرات وضرورة تصحيح الاختلالات، في سياق تقييم مسيرة السنوات الماضية.
أحد هؤلاء هو وديع الجلاصي، وهو شاب ثلاثيني اشتهر خلال الثورة التونسية بحمله قفصاً بعدما وضع داخله حمامة. وقد حمله المحتجون على الأعناق أمام وزارة الداخلية في 14 يناير 2011، ثم أطلقها لاحقاً، تعبيراً عن قرب تحرر الشعب التونسي، فلُقّب بـ"صاحب قفص الحرية". كان الجلاصي يومها يرتدي قميصاً كُتب عليه: "لاأريد أن أكبر. أريد أن أظلّ طفلاً". حالياً يستعد الجلاصي بعد 8 سنوات من الثورة التونسية، لحمل القفص مجدداً، مؤكداً أنه سيضع داخله "فكرة جديدة ورسالة مبتكرة وستكون موجّهة للسلطة وإلى الرأي العام".
الجلاصي، الموهوب بالتنشيط الشبابي والثقافي، عمل قبيل الثورة نادلاً بنادي المحامين بتونس، وبعد فترة طويلة من البطالة، حصل على عمل في إحدى دور الثقافة بمنطقته بالنحلي، من محافظة أريانة، وسط تونس. وذكر لـ"العربي الجديد"، أنّه بحكم عمله بنادي المحامين، فقد نشط مع إحدى المحاميات المعارضات للنظام، وهي الأستاذة ليلى بن دبة، لتدوين شعارات مطالبة بإسقاط النظام. وأشار إلى أنه كان يتظاهر مع الشباب، وعندما يلاحقهم الأمن يختبئون بالعمارات، وفي 14 يناير جهّز نفسه للتظاهر وفكّر مطولاً في الشعار الذي سيحمله للتعبير عن قمع النظام، مؤكداً أنه حصل على قفص من جاره ووضع داخله حمامة وقد حالفه الحظ في الوصول إلى وزارة الداخلية.
وأضاف الجلاصي أن "التعبئة أمام وزارة الداخلية كانت أكثر مما نتوقّع، وتحوّلت الشعارات إلى شعار واحد، وتعالت الأصوات المطالبة بإسقاط النظام"، مشيراً إلى أن "أهم مكسب يكمن في أن الشعب التونسي حصل على الحرية، وأن هناك العديد من الجنود الخفيين الذين شاركوا في الثورة".
وكشف أنه لا يزال يشارك في الاحتجاجات المطالبة بتحسين وضع حيه، فمشاكله هي مشاكل أبناء الحيّ، "وهي تعبيد الطرقات وقنوات تصريف المياه والإصلاح نحو الأفضل، وأن تتم تسوية الوضعية العقارية للمساكن"، بحسب ما ووعدوا به. ولفت إلى أنه تحزّب في فترة ما، حين حاول الدخول في غمار العمل السياسي، ولكنه سرعان ما غادر السياسة، "لأن السياسيين بعيدون عن مشاغل الشعب، على الرغم من وجود أحزاب أفضل من أخرى، ولكن التجاذبات السياسية والخصام على الكراسي نفرتني من السياسة"، مشيراً إلى أنّه عاد إلى العمل الثقافي.
وقال الجلاصي إنّه لا يزال "وديع ابن الحي الشعبي الزوّالي (الفقير)، فوالدي تحصّل على تقاعد مبكر بسبب المرض، ووالدتي تعمل في التنظيف، وتزوجتُ من جزائرية، وأعيش واقع كل الشباب وأعاني معاناتهم نفسها". وأضاف "سأشارك اليوم في احتفالات الثورة الثامنة بالقفص نفسه وبرسائل جديدة للحكومة، من أجل المزيد من العناية بالأحياء الشعبية وبالطبقات الاجتماعية وتنفيذ الوعود والنظر إلى الأمام".
يتذكر التونسيون والعرب جيداً العبارة الشهيرة "هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية"، التي صدح بها مواطن تونسي أمام عدسات الكاميرا وقد كان متأثراً جداً. هذا المواطن هو أحمد الحفناوي، الذي لم يتجاوز عقده الخامس بعد، وقد عانى مع عائلته من مضايقات النظام السابق، بعد اعتقال شقيقه بتهمة "الانتماء إلى تنظيم غير مرخّص له"، وهو "الاتجاه الإسلامي" سابقاً (النهضة حالياً)، ما دفعه إلى الانقطاع عن الدراسة والتكفل بأسرته، ولا يزال لا يصدّق أن نظام بن علي رحل، متذكراً تفاصيل يوم 14 يناير 2011. تغيّرت حياة الحفناوي كثيراً بعد الثورة وعاش أزمات صحية عدة، بسبب تعرّضه لجلطة قلبية، وتحوّل من صاحب مقهى إلى مسؤول بمدرسة خاصة.
في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، قال الحفناوي إن "العام الثامن للثورة يعتبر من أصعب الأعوام التي يعيشها التونسيون، نظراً للظرف الاقتصادي الدقيق. وعلى الرغم من المعاناة، فإنه لا يمكن تحميل الثورة كل الأزمات ونسيان المكتسبات، وهي الانتقال من الدكتاتورية إلى الحرية والديمقراطية، فـ14 يناير يوم أذهل العالم".
وذكر أنّه "يجب ألا ننسى تبعات ما بعد الثورة والمسؤولين الذين تقلدوا الحكم بعد الثورة وكانت تنقصهم الخبرة والكفاءة"، مضيفاً أنه "نطقت بكلمة (هرمنا) صباح 15 يناير عند الساعة التاسعة صباحاً، أي بعد فرار بن علي". وأوضح أنه "لا أحد كان ليصدق انهيار النظام، وكنت أعيش يومها بين الشعور بالخوف والفرح، فلو لم يهرب بن علي لما احتفل الشعب التونسي بالثورة"، مؤكداً أن "الحياة ليست مجرد معيشة وارتفاع أسعار فقط، بل كيان إنساني قبل المعيشة وقبل الاقتصاد، أي الحرية والديمقراطية أولاً، لأن التونسيين لن يخافوا مستقبلاً، وهم سعداء بالثورة ولا بد من الأمل".
ورأى الحفناوي أن "تونس هي المستقبل وعلى الشباب أن يصوّتوا وينتخبوا ويشاركوا في المشهد السياسي"، معتبراً أنه "على الرغم من الظروف التي مرّت بي من أزمة اقتصادية بفعل إحراق المقهى الذي كنت أعمل فيه، إلا أنني أعمل الآن مع شقيقتي في مدرسة خاصة، وقد تكفلت بمنحي راتباً شهرياً، لذلك بقيت. أنا لست في أسعد أيامي، إلا أنني متشبث بالأمل".
أما مسلم قصد الله، فقد بُترت ساقه ويعاني وضعاً صحياً دقيقاً، ولا ينام إلا بالمهدئات، وفقد عمله في المجال الفلاحي بعد الإصابة، وما زال يأمل بالاهتمام بجرحى الثورة وأن يتم إنصافهم. وأكد الشاب الثلاثيني في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أن "ليلة 14 يناير، أي مباشرة بعد هروب بن علي، تمّ تشكيل لجان أحياء في الوردانين بالمنستير، وقد خرجت مع شباب الحي بعد سماعي بأنه سيتم تهريب قيس بن علي، فتم إطلاق الرصاص باتجاهنا، فقُتل 6 شباب وجُرح نحو 13 آخرون، كنت من بينهم. بقيت أنزف إلى أن تجمّد جسمي ودخلت الغيبوبة لمدة 3 أشهر".
وأضاف: "أجريتُ 32 عملية في تونس والخارج، ومع ذلك لا تزال المعاناة مستمرة، وعلى الرغم من وضعي لساق اصطناعية، إلا أنه لا بدّ من تغييرها"، مؤكداً أن "الدولة نسيت جرحى الثورة وأن السياسيين استغلوا الحدث للصعود إلى السلطة، ولولا مساندة بعض الجمعيات والمنظمات لكان وضعنا أسوأ". وذكر أنه "عندما شاركت في الثورة لم أكن أدري ما يخفيه القدر، ولكننا ضحينا بحياتنا من دون قطف ثمار الثورة بعد". وعلى الرغم من وضعه الصحي، غير أن قصد الله يهتم بوالدته المريضة، التي تعاني من جلطة ومن توقف إحدى كليتيها.
المحامي، الناشط في الحركة القومية الناصرية، خالد عواينية، أدى دوراً محورياً في تحويل حالة انتحار محمد البوعزيزي إلى حالة ثورية، وكان من بين الذين أطلقوا الحراك الثوري في سيدي بوزيد بصحبة ثلة من النقابيين والحقوقيين هناك. وصف خالد عواينية، لـ"العربي الجديد"، الوضع الحالي اليوم بـ"البائس، فقد مرّت ثماني سنوات منذ تفجير الحراك الثوري، ونتج عنه أبناء مدّعون ووهميون للثورة، يتصدرون الشاشات والمناصب على حساب المطالب الحقيقية للتونسيين". وأضاف أن "هناك استبعاداً ممنهجاً للمناضلين الصادقين، استهدفني مع رفاقي. وتم تغيير المشهد لتصبح مكوناته أحزاباً سياسية على شكل شركات تجارية أو مقاولات، في ظلّ مشهد إعلامي فقد في أغلبه المبادئ والقيم، وضاعت شعارات الثورة الأولى وتم تعويضها بإشكاليات مفتعلة".
واعتبر عواينية أن "هذا المشهد نصبته أكثر من جهة، وأضحى واقعاً يكون فيه أمثاله نشازاً، ولا يمكن إلا أن يُقيّموا وضعهم فيه بالاغتراب التام. وعلى الرغم من ذلك، أسعى لإعادة الصورة إلى جادة الحقيقة عبر تأطير التحركات الاحتجاجية في جهة سيدي بوزيد، ومساندة الشباب الثائر والدفاع عنه من هجمة السلطة ونشر الوعي بالقضايا الحقيقية".
أما القيادي بالجبهة الشعبية، عبد الناصر العويني، الذي خرج ليل 14 يناير صارخاً بأعلى صوته: "بن علي هرب، لا تخافوا يا تونسيين"، فقد اعتبر في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أن "الدرس التونسي ما يزال مؤثراً خارج تونس ولم ينته إشعاعه بعد، والدليل ما يجري في السودان اليوم من هبة شعبية من أجل الحرية والكرامة. كما أنه في الداخل لم تنته حقبة الثورة بعد، فكل الشروط التي أدت لخروج التونسيين وتظاهرهم لا تزال متوفرة، مع فارق وحيد، هو حالة الاستنزاف والإرهاق التي أصابت النشطاء والمواطنين. بيد أن أكثر من لم يستوعب درس الثورة، هم كل من تداولوا على الحكم منذ قيامها إلى اليوم، فبمجرد دخولهم إلى القصر الرئاسي تحوّلوا إلى نسخ رديئة من بن علي، وآخر الصور جاءت من زيارة رئيس الحكومة يوسف الشاهد لمحافظة جندوبة المتضررة من التهميش والعوامل المناخية معاً. تذكر الزيارة بالزيارات التي كان يجريها بن علي بالعبارات والبروباغندا ذاتها، وكأن هذا ما تحتاجه البلاد فعلاً، في حين أن تونس تحتاج خلال هذه الفترة إلى أجوبة سياسية واجتماعية واقتصادية على أسئلة الثورة".
ورأى العويني أن "الخروج من المأزق يتطلب حلولاً سياسية بوجوه جديدة ومن دون كذب ووعود زائفة، ومعالجة المشاكل الاجتماعية، على غرار غلاء المعيشة وهشاشة الوضع الأمني وانسداد الآفاق أمام الناس. وهي أسباب يأسهم وانتكاسة الثورة. ويتطلب الوضع أيضاً عودة أولئك الذين كانوا فاعلين في مواجهة الاستبداد للواجهة مجدداً، ويحاولون الدفاع عن المكتسبات المهددة، كالحريات وفرض واقع جديد بطرح بديل".
في السياق ذاته، رأى الناشط في الحزب الديمقراطي التقدمي قبل الثورة، الفاعل في الحركات الاجتماعية بعدها، وسام الصغير، في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أن "الصورة العامة باعثة على التفاؤل، إذ لا يمكن تجاهل أن البلاد في وضع أفضل مما كانت عليه قبل الثورة. وهو أمر قد لا يشعر به التونسيون، إلا أنهم إذا عرفوا وقع ثورتهم على العالم، ازدادوا افتخاراً بإنجازهم. ولعل مشهد تسليم السلطة بين الرئيس المنتهية مدته آنذاك المنصف المرزوقي والرئيس المنتخب الباجي قائد السبسي في قصر قرطاج، كان صورة معبّرة عن واقع جديد وتغني عن توصيف ما حققته تونس في مجال الديمقراطية. وهي من بين الجوانب المشرقة للثورة".
وأضاف أنه "لا يمكن التغافل أيضاً عن الجانب المظلم، فالنخب السياسية التي تداولت المسؤوليات لم تحقق أهداف الشعب التونسي، والوعود التي أطلقتها كان سقفها عالياً جداً ولم تفِ بها. ما أدى لحالة من الإحباط والاحتقان. وأمام النخب الحالية تحديات اقتصادية واجتماعية، ولم تعد لها نظرة استراتيجية في تغيير منوال التنمية، مكتفية بالترقيع ومجاراة النسق والتطبيع مع القوى المهيمنة في المنطقة ومنظمات الإقراض، أي بوابة الاستعمار الجديدة، وليس عبر الدبابات، في سياق توجيه السياسات الداخلية في المقابل".
واعتبر الصغير أن "الرهان اليوم، وبعد ثماني سنوات من الثورة، هو رهان على قوى وطنية حية ملتحمة بالشعب وذات مشروع وطني، ويتم ذلك عبر حشد هذه القوى واجتماعها في المحطات الانتخابية، لتحصل على مواقع مؤثرة في القرار السياسي تسمح لها بتحقيق انتظار التونسيين".
إلى ذلك، رأى المتحدث الرسمي باسم الحزب الجمهوري وسيم بوثوري في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أنه "بعد سنوات من ثورة 17 ديسمبر 2010 ثم 14 يناير 2011، يمكن الجزم بأن تونس حققت تقدماً غير مسبوق في المنطقة العربية على مستوى تركيز الجمهورية الثانية والمؤسسات الدستورية الضامنة لاستمرار الديمقراطية المتصدية للنزوع نحو الاستبداد الذي تجلى خصوصاً في فترة حكم الترويكا". وأضاف أن "هذه المرحلة اتسمت بأولى الضربات لإجهاض المسار الثوري، بعدما انقلبت الترويكا على تعهداتها بإرساء دستور وتنظيم انتخابات عامة في ظرف سنة واحدة، فاستمرت لا شرعية مؤسسات الدولة نحو السنتين تحت عنوان التوافق".
وقال إن "مسار تركيز مؤسسات الجمهورية الثانية بقي مبتوراً، ولم يتم بعد تركيز المحكمة الدستورية على الرغم من انقضاء الآجال. كما أن التجربة التونسية لم تحقق بعد متطلباتها الاجتماعية التي جسّدها شعار (التشغيل استحقاق يا عصابة السراق)، إلى جانب التشغيل والتنمية، خصوصاً في مجال محاربة الفساد الذي لا يزال يعشش في مؤسسات الدولة وينخرها. ما عطّل جلب الثروة من ناهبيها، وسجلت هذه الفترة على صعيد آخر تنامي التدخل الأجنبي في تونس، ما وضع مسألة السيادة على طاولة النقاش. ولكن البلاد في المحصلة أفضل بكثير من تونس في ظل الدكتاتورية، رغم أن المسار الديمقراطي مهدد بالتطلعات الاجتماعية الكبرى".