05 نوفمبر 2024
الديموقراطية هي الحل
تقول حنة آرندت إن الرجال الأفراد الذين لا يجدون إلى جانبهم آخرين يدعمونهم لا يكون لديهم ما يكفي من السلطة لاستخدام العنف استخداماً ناجحاً. كما تقول: العنف بحاجة إلى توجيه وتبرير في طريقه إلى الهدف الذي يتبعه. بحاجة إلى تبريرٍ يأتيه من طرف آخر.
وليس القرار الذي أصدره الرئيس الأميركي الجديد، دونالد ترامب، منع مواطني سبع دول مسلمة من دخول الولايات المتحدة، إلا ترجمة فاجرة للعنف، وتطبيقه بصورة بشعة، فيها حد كبير من الوقاحة والاستهتار بالقيم الإنسانية، وبالمبادئ التي من المفترض أن الدولة التي منحه شعبها الثقة تتبناها، طالما أن الدافع وراء قراره هذا هو العنصرية بأبشع صورها، وبأكثر نهاياتها خطورةً، فهي ستكون الفتيل الذي سيزيد إضرام حرائق العنف، عدا النتائج الأخرى التي لا مجال لسردها هنا، فتعطيل حياة عشرات آلاف من الناس، وحجزهم في المطارات، ومنعهم من دخول أراضي الولايات المتحدة يحمل كثيراً من الأذى الموزّع على هذه الآلاف، وغيرهم ممن رفضت شركات الطيران أن تقلّهم بسبب قرار المنع هذا، بالدرجة نفسها من القسوة. هذا سلوك عنيف تدينه القرارات الدولية ومواثيق حقوق الإنسان، ومنظومات القيم والأخلاق الإنسانية.
فإذا عدنا إلى مقولة حنة آرندت، يمكن القول إن ترامب ليس متفردًا في قراره المستبيح كرامات الناس والمنتهك لها، بل يقف خلفه لوبي يميني متطرّف متجذّر في المجال الأميركي العام وفي العالم أيضًا، له وزن وثقل مهمان، بما يملك من ملاءة وسطوة اقتصادية. ومما لا شك فيه أن لهذا اللوبي قاعدته التي يغذّيها بنوازع التعصب والعنصرية المقيتة، كما أن هذا العنف الممارس بأسلوب فج ومستهتر له في المقابل الخطاب التبريري المقنع لدى أوساطٍ لا يمكن الاستهانة بقاعدتها الشعبية أيضًا، وهو محاربة الإرهاب وحماية الأمن القومي الأميركي والمجتمع الأميركي من خطره الذي باتت أمثلته لا تعد في بقاع عديدة، وهي حاضرةٌ في ذاكرة الشعوب، وفي راهنها، فالعمليات الإرهابية التي تعدّت حدودها الجغرافية، واخترقت المجتمعات في دول عديدة، وحصدت عشرات ومئات من الأرواح الآمنة في تجمعاتٍ بعيدةٍ عن مسارح السياسة، ارتبطت غالبيتها بالدين الإسلامي، وبكلمة الله أكبر، ما جعل مواطنين لا يميّزون بين "داعش" ومشروعها الذي جعلت من الدين الإسلامي سنده وحجته وشريعته وبين أي مسلم آخر، إذا لم يكونوا عايشوا مسلمين آخرين من النماذج القادرة على التعايش والاندماج في مجتمعات أخرى، بل ومواكبة الحضارة والمساهمة في إثرائها، هؤلاء لا يعرفون عن الدين الإسلامي سوى أنه أداة العنف والقتل والهمجية والتعصب الأعمى، المرتبط دائمًا بكلمة: الله أكبر.
إذا كان لترامب واللوبي الذي يقف وراءه من قاعدة جماهيرية، وهذا أكيد، وإلا ما كان حصل على أصوات تقرّبه من بلوغ الرئاسة، فإن هذه القاعدة ليست المسؤولة بشكل مباشر عن العنف والتعصب والعنصرية، فنادرًا ما كان للناس العاديين علاقة مباشرة بممارسات أصحاب السلطة والنفوذ. لكن، وكما ينبئنا التاريخ دائما، كانت هناك شريحة كبيرة قد تكون غالبية أحيانًا تقف في موقع المتفرج على ما يرتكب باسمها، بل وتسلم بالفظائع التي ترتكب وتصفق لها، بينما الشريحة المعارضة لتلك الارتكابات تتقلص، بسبب العنف الممارس عليها من الفئة مالكة القوة والسلطة والنفوذ. والتاريخ أيضًا يقدّم ما يدعم هذا القول، فكم ارتُكب من مجازر وإبادات وتطهير عرقي، وكم سُنت قوانين ووُضعت تشريعات من سلطات قوية، مارستها قواعد شعبية أو جماهيرية، لم تكن صاحبة القول والرأي والقرار، لكنها كانت الشريحة المستهدفة للسياسات التي حقنتها بالعقائد والإيديولوجيات التي تدفعها إلى القيام بهذه الأعمال العنفية.
في المقابل، إذا التفتنا إلى ردود الفعل المناهضة لقرار ترامب، وإلى القضاء الذي أبطل القرار، وإلى التظاهرات الشعبية التي خرجت للتنديد والتضامن مع ضحايا العنف والتمييز العنصري، ومواقف نخب فنية واقتصادية وثقافية عديدة وغيرها، ليس في أميركا وحدها بل في دول أخرى، كما حصل في بريطانيا، حيث تجاوز عدد الموقّعين على العريضة المطالبة بمنع زيارة ترامب إلى بريطانيا المليون، فإن النتيجة يمكن أن تدعو إلى التفاؤل. صحيح أن التغيرات المرجوّة لا تحصل بعدد قليل من السنين، لكنها لا بد أن تحصل، والبشرية، منذ التاريخ الغابر، تسعى إلى تطوير نفسها وحياتها وسبل إدارة مجتمعاتها، وتطوير القوانين التي تنظمها.
لا بدّ من الاعتراف بأن الديموقراطية، مفهوماً نظرياً، يمكن أن تكون في التطبيق العملي هي الضامن الأمثل للتغيير الإيجابي، خصوصاً عندما تصبح مفهومًا اجتماعيًا، وليس الحراك الذي حدث في الولايات المتحدة، بعد قرار ترامب، سوى دليل واضح على أن الشعوب هي المعوّل عليها في التغيير الاجتماعي، والدفع بالحياة البشرية إلى فضاء أكثر رحمة وعدلاً.
قد يطول هذا المشروع، ومن الطبيعي أن يطول، خصوصًا بعد فشل الديموقراطيات الاشتراكية في أكبر نظمها والأنظمة الملحقة بها، الفشل الذي يجب ألا يدفعنا إلى اليأس والتشاؤم، خصوصًا لما تقوم به الأنظمة الرأسمالية التي تستند على الديموقراطيات من تعسّفٍ تجاه الشعوب الأخرى، كذلك من تعثر في تحقيق المستوى العادل والمرجو لحياة شعوبها.
الديموقراطية التي دفعت الشعوب نزيفًا من دمائها وأرواحها، لتكون ضامنًا للحقوق، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وممارسة الحرية هي التي منحت الحق والقدرة ليكون هناك رأي عام مناهض لسياسة الأنظمة، وهي التي يمكن أن تحدّ من التهور والمزيد من الخراب الذي يلحق بالبشرية والحضارة الإنسانية. صحيح أن أفعالاً كثيرة كانت مباركةً في الماضي، كالاضطهاد العرقي والتمييز العنصري والديني والجنسي، وكانت تُرتكب باسمها جرائم قانونية، تحميها سلطة الدولة، خصوصاً في أميركا، وأن النضال من أجل إلغائها لم يكن سهلاً، صارت اليوم مستهجنةً ومرفوضةً من أعداد كبيرة، حتى في المجتمع الأميركي، ولم يعد من السهل ارتكابها أو الدفاع عنها، لكنها لم تجهض كاملاً، هذا بفضل الديموقراطية كمفهوم أصبح يتغلغل في وعي الناس، ولم يعد شعارات تطرح، ثم تتعثر في تطبيقها.
هذه الأفعال والسياسات التي يمكن وصفها بأنها "شرّيرة" تجاه الإنسانية، يمكن ضبطها على المدى الطويل، قياساً بعمر الفرد، وليس بعمر الشعوب، سيكون هذا عن طريق النضال ضدها، والسعي إلى إقامة نظام اجتماعي، يملك القدرة على ضبط السياسات ومحاسبة الأنظمة، ألا تمنح الديموقراطية سلطة للشعب الذي اختار من يديرون حياته؟
قد يتهم رأي كهذا بالترف والانفصال عن الواقع، في ظل الظروف التي تعيشها منطقتنا العربية. لكن مع هذا، يدافع هذا الرأي عن نفسه بأن عمليتي الهدم والبناء متلازمتان في كل الكائنات الحية، وإن كان الربيع العربي فشل أو تعثّر أو انتهك، فإن الشعوب تبقى حيةً، وتبقى بحاجة إلى البناء الذي يجب ألا يتوقف، هذه مسؤولية النخب، خصوصاً الثقافية، المطلوب منها أن تبتعد عن الاستقطابات السياسية، وتتفرّغ لدعم الوعي وزرع بذور الديموقراطية فيه، فالتعويل على أنظمتنا السياسية، أو تلك التي تقاتل لأن تحلّ محلها بخطابها المتطرف التعسفي الإقصائي القمعي، لن يؤدي إلا إلى مزيدٍ من الدمار والخراب، وجعل التاريخ "مسلخًا"، على رأي هيغل، تفوح منه رائحة الدم، من أجل البقاء في السلطة، وإبعاد الشعوب عن حياة كريمة هي حقها.
وليس القرار الذي أصدره الرئيس الأميركي الجديد، دونالد ترامب، منع مواطني سبع دول مسلمة من دخول الولايات المتحدة، إلا ترجمة فاجرة للعنف، وتطبيقه بصورة بشعة، فيها حد كبير من الوقاحة والاستهتار بالقيم الإنسانية، وبالمبادئ التي من المفترض أن الدولة التي منحه شعبها الثقة تتبناها، طالما أن الدافع وراء قراره هذا هو العنصرية بأبشع صورها، وبأكثر نهاياتها خطورةً، فهي ستكون الفتيل الذي سيزيد إضرام حرائق العنف، عدا النتائج الأخرى التي لا مجال لسردها هنا، فتعطيل حياة عشرات آلاف من الناس، وحجزهم في المطارات، ومنعهم من دخول أراضي الولايات المتحدة يحمل كثيراً من الأذى الموزّع على هذه الآلاف، وغيرهم ممن رفضت شركات الطيران أن تقلّهم بسبب قرار المنع هذا، بالدرجة نفسها من القسوة. هذا سلوك عنيف تدينه القرارات الدولية ومواثيق حقوق الإنسان، ومنظومات القيم والأخلاق الإنسانية.
فإذا عدنا إلى مقولة حنة آرندت، يمكن القول إن ترامب ليس متفردًا في قراره المستبيح كرامات الناس والمنتهك لها، بل يقف خلفه لوبي يميني متطرّف متجذّر في المجال الأميركي العام وفي العالم أيضًا، له وزن وثقل مهمان، بما يملك من ملاءة وسطوة اقتصادية. ومما لا شك فيه أن لهذا اللوبي قاعدته التي يغذّيها بنوازع التعصب والعنصرية المقيتة، كما أن هذا العنف الممارس بأسلوب فج ومستهتر له في المقابل الخطاب التبريري المقنع لدى أوساطٍ لا يمكن الاستهانة بقاعدتها الشعبية أيضًا، وهو محاربة الإرهاب وحماية الأمن القومي الأميركي والمجتمع الأميركي من خطره الذي باتت أمثلته لا تعد في بقاع عديدة، وهي حاضرةٌ في ذاكرة الشعوب، وفي راهنها، فالعمليات الإرهابية التي تعدّت حدودها الجغرافية، واخترقت المجتمعات في دول عديدة، وحصدت عشرات ومئات من الأرواح الآمنة في تجمعاتٍ بعيدةٍ عن مسارح السياسة، ارتبطت غالبيتها بالدين الإسلامي، وبكلمة الله أكبر، ما جعل مواطنين لا يميّزون بين "داعش" ومشروعها الذي جعلت من الدين الإسلامي سنده وحجته وشريعته وبين أي مسلم آخر، إذا لم يكونوا عايشوا مسلمين آخرين من النماذج القادرة على التعايش والاندماج في مجتمعات أخرى، بل ومواكبة الحضارة والمساهمة في إثرائها، هؤلاء لا يعرفون عن الدين الإسلامي سوى أنه أداة العنف والقتل والهمجية والتعصب الأعمى، المرتبط دائمًا بكلمة: الله أكبر.
إذا كان لترامب واللوبي الذي يقف وراءه من قاعدة جماهيرية، وهذا أكيد، وإلا ما كان حصل على أصوات تقرّبه من بلوغ الرئاسة، فإن هذه القاعدة ليست المسؤولة بشكل مباشر عن العنف والتعصب والعنصرية، فنادرًا ما كان للناس العاديين علاقة مباشرة بممارسات أصحاب السلطة والنفوذ. لكن، وكما ينبئنا التاريخ دائما، كانت هناك شريحة كبيرة قد تكون غالبية أحيانًا تقف في موقع المتفرج على ما يرتكب باسمها، بل وتسلم بالفظائع التي ترتكب وتصفق لها، بينما الشريحة المعارضة لتلك الارتكابات تتقلص، بسبب العنف الممارس عليها من الفئة مالكة القوة والسلطة والنفوذ. والتاريخ أيضًا يقدّم ما يدعم هذا القول، فكم ارتُكب من مجازر وإبادات وتطهير عرقي، وكم سُنت قوانين ووُضعت تشريعات من سلطات قوية، مارستها قواعد شعبية أو جماهيرية، لم تكن صاحبة القول والرأي والقرار، لكنها كانت الشريحة المستهدفة للسياسات التي حقنتها بالعقائد والإيديولوجيات التي تدفعها إلى القيام بهذه الأعمال العنفية.
في المقابل، إذا التفتنا إلى ردود الفعل المناهضة لقرار ترامب، وإلى القضاء الذي أبطل القرار، وإلى التظاهرات الشعبية التي خرجت للتنديد والتضامن مع ضحايا العنف والتمييز العنصري، ومواقف نخب فنية واقتصادية وثقافية عديدة وغيرها، ليس في أميركا وحدها بل في دول أخرى، كما حصل في بريطانيا، حيث تجاوز عدد الموقّعين على العريضة المطالبة بمنع زيارة ترامب إلى بريطانيا المليون، فإن النتيجة يمكن أن تدعو إلى التفاؤل. صحيح أن التغيرات المرجوّة لا تحصل بعدد قليل من السنين، لكنها لا بد أن تحصل، والبشرية، منذ التاريخ الغابر، تسعى إلى تطوير نفسها وحياتها وسبل إدارة مجتمعاتها، وتطوير القوانين التي تنظمها.
لا بدّ من الاعتراف بأن الديموقراطية، مفهوماً نظرياً، يمكن أن تكون في التطبيق العملي هي الضامن الأمثل للتغيير الإيجابي، خصوصاً عندما تصبح مفهومًا اجتماعيًا، وليس الحراك الذي حدث في الولايات المتحدة، بعد قرار ترامب، سوى دليل واضح على أن الشعوب هي المعوّل عليها في التغيير الاجتماعي، والدفع بالحياة البشرية إلى فضاء أكثر رحمة وعدلاً.
قد يطول هذا المشروع، ومن الطبيعي أن يطول، خصوصًا بعد فشل الديموقراطيات الاشتراكية في أكبر نظمها والأنظمة الملحقة بها، الفشل الذي يجب ألا يدفعنا إلى اليأس والتشاؤم، خصوصًا لما تقوم به الأنظمة الرأسمالية التي تستند على الديموقراطيات من تعسّفٍ تجاه الشعوب الأخرى، كذلك من تعثر في تحقيق المستوى العادل والمرجو لحياة شعوبها.
هذه الأفعال والسياسات التي يمكن وصفها بأنها "شرّيرة" تجاه الإنسانية، يمكن ضبطها على المدى الطويل، قياساً بعمر الفرد، وليس بعمر الشعوب، سيكون هذا عن طريق النضال ضدها، والسعي إلى إقامة نظام اجتماعي، يملك القدرة على ضبط السياسات ومحاسبة الأنظمة، ألا تمنح الديموقراطية سلطة للشعب الذي اختار من يديرون حياته؟
قد يتهم رأي كهذا بالترف والانفصال عن الواقع، في ظل الظروف التي تعيشها منطقتنا العربية. لكن مع هذا، يدافع هذا الرأي عن نفسه بأن عمليتي الهدم والبناء متلازمتان في كل الكائنات الحية، وإن كان الربيع العربي فشل أو تعثّر أو انتهك، فإن الشعوب تبقى حيةً، وتبقى بحاجة إلى البناء الذي يجب ألا يتوقف، هذه مسؤولية النخب، خصوصاً الثقافية، المطلوب منها أن تبتعد عن الاستقطابات السياسية، وتتفرّغ لدعم الوعي وزرع بذور الديموقراطية فيه، فالتعويل على أنظمتنا السياسية، أو تلك التي تقاتل لأن تحلّ محلها بخطابها المتطرف التعسفي الإقصائي القمعي، لن يؤدي إلا إلى مزيدٍ من الدمار والخراب، وجعل التاريخ "مسلخًا"، على رأي هيغل، تفوح منه رائحة الدم، من أجل البقاء في السلطة، وإبعاد الشعوب عن حياة كريمة هي حقها.
دلالات
مقالات أخرى
27 أكتوبر 2024
19 أكتوبر 2024
05 أكتوبر 2024