الدول الصغرى و"المأزق الأمني"

16 نوفمبر 2016
+ الخط -
صاحب خبر إعلان تصويت "بريكسيت"، أو إعلان خروج المملكة المتحدة من عضوية الاتحاد الأوروبي في الصيف الماضي، ردة فعل احتفائية من بعض الأفراد في العالم العربي، اتصفت بالتشفي والتلذذ بخبرٍ يوحي ببداية انكسار الاتحاد. وهذا الموقف، إن نمّ عن شيء، فهو ينم على ضعف في قراءة التاريخ، ونظرة لا تتجاوز موقع القدم لفهم التداعيات السلبية الاقتصادية، والمخرجات الخطيرة لسياسة الانفصال المبنية على الشعبوية، العنصرية وثقافة كره "الآخر"، والتي ستعتاش بها الجزيرة الإنكليزية في العقود المقبلة، ناهيك عن أن هذا الاحتفاء العربي يعكس، للأسف، النظرة العصبوية الضيقة المنتشرة في منطقتنا.
لكن، بعيداً عن قضية "بريكسيت"، لنستكشف أهمية "الاتحادات" أو "المجالس" أو التحالفات السياسية/ العسكرية للدول الصغرى، والتي تتضمن أيضاً "الدويلات". مبدئياً، تعداد السكان في الدول الصغرى لا يتجاوز المليون ونصف المليون، أما الدويلات فهي الدول التي لا يتجاوز التعداد السكاني فيها نصف المليون، وغالباً ما تتمثل في الجزر.
ولد مصطلح "الدول الصغرى" إبّان سقوط الإمبرطورية النمساوية في أوروبا، بعد نهاية الحرب العالمية الأولى. وازداد عدد هذه الدول، بُعيد انهيار الإمبرطوريات والدول الاستعمارية في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، في أعقاب حركات التحرّر الوطنية. وفقاً لقياس البنك الدولي، هناك خمسون دولة "معترف بها" وتصنف دولاً صغيرة؛ مملكة البحرين ودولة قطر منها. ومازال هناك خلاف أكاديمي على تعريف مفهوم الدول الصغرى، فبعضهم يتساءل إذا كانت المساحة والتعداد السكاني كافيين لتصنيف دولٍ بعينها صغرى في النظام العالمي، أم أن نظرة الدولة إلى ذاتها ونظام الحكم الداخلي، إلى جانب دورها الإقليمي والدولي يحدّد إذا كانت تُعتبر من الدول الصغرى صفةً وفعلاً، من منطلق التأثير. لكن، يبدو أن تعداد السكان وقلة الموارد البشرية والمساحة الجغرافية المحدودة تظل من أكثر الصفات التي تطفو على السطح غالباً عند مناقشة تعريف الدولة الصغرى. وقد يتوسّع هذا التعريف، وفقاً للحقل الذي يُدرس فيه المفهوم؛ فالحقل العسكري والأمني، مثلاً، يركّز على افتقار الدول الصغرى للجيش العسكري الهائل، لحمايتها في حالة العدوان والغزو. وفي حقل العلاقات الدولية، يبدو أن مدى واقع سيادة الدولة الكاملة يلعبُ دوراً محورياً في سياق هذا التعريف. ولا يعني مفهوم الدول الصغرى بالضرورة أنها ضعيفة؛ لذلك تسمى هذه الدول أيضاً "القوى الصغرى" انطلاقاً من تأثيرها ومدى فاعلية دورها في المنظومة الدولية.
كان مفهوم القوة (والإمبراطوريات) العظمى المفهوم السائد في بدايات القرن الماضي، وغابت الدولة الصغرى، لأنها كانت قُوت الدول الكبرى التي اعتمدت على التوسّع عبر الانضمام
القسري، وابتلاع مزيد من الأراضي (تتمثل بحدود الدول الصغيرة، اليوم)، لإثبات عظمتها السياسية. سقوط هذه القوى، وانتهاء الحرب الباردة لاحقاً، أديا إلى زيادة أعداد الدول الصغيرة المستقلة، والمعترف بها دولياً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ومع هذا التزايد وُلد "المأزق الأمني" في حسابات القوى الصغرى. وتنطلق هذه المعضلة من مبدأ مفهوم المدرسة الواقعية للعلاقات الدولية الذي يؤمن بأن النظام الدولي ذو طابع فوضوي وتنافسي، وأن البقاء والاستمرار هو الدافع الأساسي للدول. ويفسر هذا المأزق الإجراءات الدفاعية والتسلح العسكري لدولةٍ ما، مثل مصدر خطر وقلق بالغ لدولة أخرى، ما يخلق حالة التسابق على الهيمنة العسكرية، ويدفع إلى احتمالية الحرب.
طالما شعرت الدول الصغرى بالتهديد من تحوّلات النظام الدولي الذي تهيمن عليه دول ومجموعات بعينها، إلى جانب مخاوفها من أطماع الدول المجاورة الكبرى. وتتعاظم هذه المخاوف مع افتقار الدول الصغرى للمصادر البشرية ومقومات الدفاع عن سيادتها. لذلك، ترغم هذه الدول على تبني إستراتيجيات بديلة، لتحمي ذاتها، مثل الانضمام للاتحادات والتحالفات السياسية أو العسكرية.
نشأت فكرة الاتحاد الأوروبي بُعيد انتهاء الحرب العالمية الثانية، في محاولة لإيجاد سلام دائم في قارةٍ شهدت فيها حروباً دموية لعقود. تم ترويج الاتحاد، بالتركيز على منافع الاعتماد الاقتصادي والتجاري المتبادل والمشترك بين الدول الأعضاء، وأصبح هذا المنطلق أحد أهم الحوافز التي دفعت عجلة تأسيس الاتحاد، والانضمام له، في سبيل ضمان السلام والازدهار المجتمعي، وتجنب النزاعات. لكن أعين الدول الصغرى التي كانت من أكثر المتضرّرين من الحروب والنزاعات كانت معلقةً على حل المعضلة الأمنية، خصوصاً أن هذه الدول تعاني من نقصٍ في الموارد البشرية، لتولي مهمة الدفاع العسكري في حالة انفجار النزاعات. وفور سقوط الحرب الباردة، أصبح الاتحاد وحلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي تأسس في 1949، لمواجهة التوسع العسكري السوفييتي، من البدائل المهمة للدول الصغرى، للحفاظ على البقاء في النظام الدولي. وينطبق الأمر نفسه جزئياً على إنشاء مجلس تعاون دول الخليج العربي الذي ولد ردة فعل لحالة الاضطرابات والتحولات الثورية في الدولة الجارة، إيران، حيث أحدثت الثورة الخمينية حالة أمنية، ومخاوف لدى دول الخليج العربي، ما استدعى تضافر الجهود بين الدول الخليجية لتأسيس المجلس.
إلى جانب العضوية في التكتلات المختلفة، سعت الدول الصغرى إلى تبني استراتيجيات أخرى بديلة، لتأمين احتياجاتها الأمنية، تتمثل في تبني سياسات دبلوماسية نشطة، كالدور الذي قامت
به قطر قبيل الربيع العربي، حيث تحولت قطر وسيطاً دبلوماسياً محايداً في النزاعات الدولية، مستفيدة من نفوذها الاقتصادي. وهذه الاستراتيجية قادرة على جعل الدولة الصغرى مرئيةً أكثر، وفعالة، وقد تضمن، ولو نسبياً، الحماية، على أساس القواعد والسلوك الدولي الرافض للعدوان، وانفجار النزاعات والداعي للسلام الدائم والشامل. وقد يشجع هذا الأمر المجتمع الدولي إلى التدخل، لحماية هذه الدولة الصغرى المتضرّرة، والتي طالما كانت فاعلاً رئيسياً في المشهد الدولي، أو عبر تبني مبدأ "الحيادية" في السياسة الخارجية، مثلاً السويد التي تنأى بنفسها عن المشاركة في النزاعات. وفي زمن الحروب، تستمر الدولة المحايدة في علاقاتها مع كل أطراف النزاع وغيرها. لذلك، لم تتعرّض السويد للغزو الدموي، كما تعرض له جيرانها الأوروبيون. ومع ذلك، لا يمنح هذا المبدأ ضمانةً لتجنب التهديد الأمني التام. لذلك، اضطرت السويد، في الحرب العالمية الثانية، إلى أن تقدّم نوعاً من التنازلات لدول المحور، ما أدى إلى إحداث جدل حول سلامة موقف الحياد.
تستفيد بعض الدول الصغرى من موقعها الجيوسياسي والموارد الطبيعية الثمينة، كالنفط والغاز اللذين تحتاج إليهما الدول لضمان سلامتها وأمنها. وتمثل هذه طريقةً مثلى لإقناع التحالفات، أو القوى العظمى، بمنح الدولة الصغرى اتفاقيات حماية أمنية خاصة، عبر القواعد العسكرية، أو شراء معدات حربية. ولهذا السبب، تسعى هذه الدول والدويلات إلى "مسايرة ركب" الدولة المهيمنة لضمان أمنها وسلامتها.
ستدفع المملكة المتحدة ضريبةً، وستتضرّر، بشكل أو بآخر، من قرار خروجها من الاتحاد الأوروبي. لكن، لابد من الاعتراف بأن بريطانيا مازالت تحظى بامتيازاتٍ، لاعتبارها دولة ذات ثقل سياسي وعسكري دولي، ما يجعل وضعها يختلف، بالمقارنة مع وضع الدول الصغرى في الاتحاد الأوروبي والتحالفات الأخرى. الدول الصغرى هي في حاجة لاستمرار تماسك البيت الأوروبي، كونها المظلة الدفاعية التي ستقيها من مغبة العدوان والمأزق الأمني.
5412BF0B-EFA5-4615-9E3D-ADDF21848F59
هناء الخمري

كاتبة يمنية مقيمة في السويد متخصصة في دراسات النزاعات والسلام