الدولة العميقة كشبكة اجتماعية [2-2]

02 يوليو 2015
الشبكات العميقة أداة للسلطة والحكم (Getty)
+ الخط -
إن مؤسسات الدول أُسست لتكون محايدة، والاستثناء أن تكون مسيّسة، والإعلام يبحث عن الحقيقة، والاستثناء أن يكون منحازاً لغير الحقيقة، ورجال الأعمال تقف الدولة منهم على مسافة واحدة، والاستثناء أن تتزاوج السلطة بالمال فتصبح المسافات متباينة بقدر ما تقترب أو تبتعد عن السلطة.

هذه الاستثناءات أصبحت الأصل، فظهرت الدولة العميقة التي هي شبكة المصالح الغير مرئية والتي تستثمر نفوذها ومواردها في توجيه السلطة والسيطرة عليها.


وكما قدمت المرة السابقة عن الشبكات الاجتماعية، فسأحاول أن أقترب في هذه المرة من الشبكات العميقة، سواء كأداة للسلطة والحكم، أو لفهم الشبكات المختلفة التي تتجاوز حدود الدول للإقليم.

الشبكة العميقة كأداة للسلطة والحكم

في عام 2009، بدا واضحاً أن مصر تمر بتغيير جوهري؛ فمشروع التوريث ونخبته الجديدة بدأ في الصعود والظهور وكذلك المشاريع المناوئة للتوريث من داخل مؤسسات الدولة بدأت أدواتها في الظهور كذلك، فظهرت منابر إعلامية وصحافية، وبدأت خريطة جديدة من الصراع المحموم والمكتوم بين شبكات متعددة ذات مصالح متباينة.

هناك من رفض التوريث وهناك من لم يهتم بأمره ما دام قادراً على تأمين مصالحه ونفوذه، وهناك من وقف يتابع بهدوء ينتظر اللحظة التي سيتدخل فيها؛ هنا ظهرت شبكات متعددة وظهرت أوزان الأفراد داخل هذه الشبكات. وبعد ثورة يناير، تكشفت أجزاء أكبر من هذه الشبكات.

اليوم تعود الشبكات القديمة للظهور مرة أخرى لتعقيدات المصالح؛ فكل شبكة تبحث عن مساحاتها وما يمكن أن تحتفظ به لنفسها؛ فالصراع اليوم أشد ضراوة، فالنظام الجديد لم يتشكل بعد حتى وإن بدا مستقراً، والنظام القديم ليس كما كان حتى وإن بدا عائداً بقوة، وكلاهما تتهددهما معارضة في الشارع حتى وإن كان تأثيرها ضعيفاً.

هذه الشبكات تلتحم وتتصالح عندما تقف أمام خطر يهدد وجودها ونظامها، وتتصارع عندما تبدأ مرحلة توزيع الغنائم، وتستخدم كل شبكة أدواتها الأمنية والإعلامية والمالية، وتدير علاقاتها الداخلية والخارجية، فيظهر المشهد كما ترى دولة واحدة تبدو مؤسساتها كملوك الطوائف كل واحدة تتصرف على حدة عن الأخرى وليس هناك رؤية موحدة للجميع سوى تأمين المصالح وتعظيم النفوذ.

هذا واجبهم في الحفاظ على مكتسباتهم؛ أما واجبنا أن نقترب أكثر ونفهم أكثر عن هذه الشبكات ونفوذها ونقاط قوتها ونقاط ضعفها لكي نتمكن من التفاعل معها، ولقد كان من فضائل ثورة 25 يناير أنها اضطرت هذه الشبكات للظهور. ولعلّ ما أذيع من تسريبات كشف لنا أجزاء مهمة في فهم الصراع وأطرافه وأهدافه.

وكمثال آخر لفهم الشبكات كأداة للسلطة والحكم، نجد أن ما جرى في المملكة العربية السعودية مثالي لذلك؛ فلا يخفى على متابع مجريات التغييرات التي طرأت بعد ما جرى انتقال للسلطة من الراحل الملك عبد الله إلى الملك سلمان، ولكن إذا نظرنا لفكرة الشبكات نجد أن دائرتين من دوائر النفوذ والحكم اتحدتا لتحجيم دائرة كانت الأقرب للنفوذ والحكم، لنرى كيف فشلت الشبكة القديمة في تأمين مصالحها واستطاعت دوائر النفوذ الأخرى ضمان استقرار الأوضاع الداخلية في المملكة ربما لعقود قادمة.

ولكن هذا التغيير والانتقال أظهر لنا نفوذ ووزن الشبكات المختلفة من رجال أعمال وأمراء وأدوات إعلامية. ولعل ما تظهره تسريبات "ويكيليكس" يظهر ما خفي من عمق الشبكات وإدارتها للأمور في واحدة من أدق دوائر النفوذ وهي وزارة الخارجية!!

ما تعّلمنا إياه الشبكات الاجتماعية أنه بمقدار ما تتمتع به شبكة من نفوذ، بقدر ما يستقر لها من حكم، ولعل كل الدول التي مرت بتغيير سياسي وتحولات في السلطة إما أنها نجحت في تفكيك الشبكة القديمة ومحاصرتها، أو أنها قامت باستبدالها مع الزمن بشرط تقاسم مساحات السلطة والمصالح المختلفة. وأبلغ مثال على ذلك هو تركيا صاحبة مفهوم الدولة العميقة التي لا تزال سلطتها الحالية يساورها القلق من تحركات الشبكات المناوئة لها في الداخل!!

ويمكنك تطبيق هذا التصور على بقية دول المنطقة لتفهم كيف ظهرت مجموعة ولِماذا اختفت أخرى، وكيف تراكمت الثروة في جانب ولِماذا انحسرت عن آخر، ولماذا تمت الإطاحة بفلان، وكيف ظهرت التسريبات؟!!

الشبكات الإقليمية

إذا نظرنا للمنطقة العربية يمكن أن نقول إن هناك رؤيتين حاكمتين للتغييرات التي تجري في المنطقة، إحداها ترى الشبكات القديمة التي تتكون من رجال دولة سابقين أو رجال أمنيين أو شخصيات بحثية أو إعلامية لها علاقات بنظم الحكم، ترى هذه الرؤية أن مركز الثقل لا يزال في يد الشبكة القديمة وبيدها خيوط اللعبة ويستثمر في ذلك، ورؤية أخرى تقول إن الشبكات القديمة متهالكة ولن تستمر، ولذا ترى أن مركز الثقل في الشبكات الجديدة وبالأساس في القوة الشبابية.

تجلّت الرؤيتان في مشاريع متعددة بعضها سياسي وبعضها إعلامي، جزء منها ارتكز على الثورات والربيع العربي ومناصرته، والجزء الآخر ارتكز على الأنظمة القديمة ومساندتها، إلا أن هذه الشبكات جميعها تعمل لتمديد النفوذ في المنطقة بعيداً عن الشق الأخلاقي أو المبدئي في أهدافها، فالجميع يبحث عن مساحة أوسع من المصالح.

وليس خافياً على المتابع التنافس المحموم بين قطر والإمارات ـ على صغر الدولتين ـ على مساحات النفوذ والتأثير في المنطقة بأسرها وفي أكثر من بلد، ولهذا ظهرت الحاجة لدعم مشاريع سواء سياسية أو إعلامية وجذب أشخاص مؤثرين ورعاية مشاريعهم، فما يسع المشاريع والأشخاص لا يسع الدول ومؤسساتها الرسمية.

وهذه المشاريع تبدو لا رابط بينها، وهذا حقيقي إذا ما نظرنا إليها منفردة، أما إذا نظرنا للصورة الكلية ومن منظور الشبكات، فسيظهر دور ووزن وثقل كل مشروع في الشبكة الأكبر التي تستطيع توجيه دفة المشروعات لصالح نفوذها، وهذا بدوره قد ينتج عن تقاطع مصالح لا عن تبعية أو شراء ذمم.

هناك أمثلة عديدة يمكن أن نسوقها في تأثير وتحليل الشبكات الاجتماعية ودورها في توجيه القرارات والسياسات، لكن لا يتسع لها المجال. وما أردت أن أظهره في هذه المرة كيف يمكن تحليل هذه الشبكات كمقدمة للتفاعل معها.

بقي أن أؤكد على أن عصب الشبكات هو المعلومات والتدفقات المالية، ولأن أغلب الشبكات تبحث أن تكون خفية، فكذلك المال وتدفقاته سيكون خارج الأنظمة البنكية، والمعلومات ستكون خارج التصريحات والمتابعات الرسمية، ومن يقترب أكثر من المعلومات ويتتبع ويكتشف الشبكة المالية يمكنه أن يكتشف ثقل الشبكة ونقاط ارتكازها ومن ثم يتفاعل معها مباشرة.

إن الشبكات في النهاية ليست شيئاً سيئاً أو حسناً، فهي شيء يحدث تلقائياً نتيجة تقارب الرؤى والأهداف والمصالح المشتركة، وتحليل الشبكات هو أداة تحسّن رؤية من يطمح للتغيير في المنطقة كي يفهم ما هي دوائر النفوذ، وليفهم ما هي التحركات المناسبة.

اقرأ أيضاً: الدولة العميقة كشبكة اجتماعية [1-2]

(مصر)
المساهمون