الدولة العميقة.. فرع المعاملات الثورية

18 فبراير 2015
لن ينجح الجميع إلا بالجميع (الأناضول)
+ الخط -

لا يتعلق الأمر بالتخوين، إنما بخدمات مجانية يؤديها طرف، من المفترض أنه ثوري، إلى خصوم الثورة، وهو يحسب أنه، وحده، من يحسن صنعاً.

تصورات ميتافيزيقية عن ثورة سوف تنتصر، لأن لها رباً يحميها، وسوف تأتي بكل ما يشتهي فصيل بعينه، من دون الآخرين، دولة القانون، الخبز والحرية والعدالة، مؤسسات المجتمع المدني، دولة من أجل المواطن، تيارات سياسية تقدمية، لا رجعية ولا تغريبية!

خطورة هذا الخطاب ليست في ما تقدمه من أسباب حتمية لاستمرار الطرف الآخر فحسب، إنما تتكسر على صخرة غيبياته إرادات جيل ينحاز إلى هذه الثورة، ويؤمن بقضيتها، ويبدأ تجربته الحقيقية معها بعد انقلاب 3 يوليو، حين كان عمره في يناير/كانون الثاني2011 لا يتجاوز الـ14عاما.

لم يعش هذا الجيل مرارات أجيال مضت، ولم يكن في حاجة لاستدعاء هذا الموروث من بطون الكتب الصفراء، كل ما رآه وسمعه عن الثورة لا يدفعه إلا إلى المضي قدما إلى نجاحها، فيما يضعه من سبقه ممن يثق بإخلاصهم وتجردهم في معادلة مستحيلة: إما نجاح يشبهنا، أو فشل يشبه الآخرين!

الشروط التي يضعها أصحاب الصوت العالي من طرفي الكتلة الحرجة التي شاركت في إطلاق شرارة الثورة الأولى، تتجاوز التعجيز إلى العبث والتخريف، فنحن لن نتوافق ما دام الإخوان حلفاء العسكر الذين يتحملون المسؤولية السياسية في إراقة دماء أصحابنا، وهم بدورهم لن يضعوا أيديهم في أيدي الانقلابيين، إذ كل من شارك في 30 يونيو انقلابي، هنا نجد أنفسنا نقول بشكل آخر: لن نتوافق أبدا، وليستمر العسكر ما شاء لهم عنادنا وغباءنا.

بعضهم يتجاوز التعجيز والتخريف إلى العدمية، وجدنا من يسميها بالعدمية الإيجابية، وهو بلال فضل بالمناسبة، تخفيفا لما يتركه أثر الكلمة من حرج، كما وجدنا من يطرح تنظيرات حول عدم أهمية التوافق أصلا، لنصبح، ربما لأول مرة، في مواجهة خطاب "ثوري" يدعونا إلى التسليم بالأمر الواقع!

وكأنهم، جزء من خطاب الدولة العميقة، فرع المعاملات الثورية، يعيدون إنتاج خطاب العسكر الفاشي، الذي لا يرى في الآخرين سوى عدم الأهلية، فضلا عن عدم الاستحقاق، كما تشوب نبرة خطاباتهم "عنجهية" يتصور أصحابها قدرة كشفية على الإحاطة بالنوايا، والتفتيش في الضمائر، وإصدار أحكام قيمة قطعية حول مدى استفادة الآخرين من تجاربهم.

إن أصحاب الخطاب الذي ينتصر للسيسي ورجاله، من حيث أراد أن ينحاز للثورة، وشهدائها، هم، في أغلبهم، أصحاب نيات حسنة، إلا أن الطريق إلى الجحيم مفروش بهذه النوايا، يهدر هؤلاء قيمة الوقت حين يتصورون أن الاختيار في لحظات مفصلية، وقلقة، مثل التي تبتلعنا في مصر الآن، قد يعطلهم لبعض الوقت، لكنه سيمنحهم ما يطمحون إليه من استبعاد للآخرين وتهميشهم بل وإخفائهم من خرائط السياسة والوعي في مستقبل ليس ببعيد!

محض خرافات، سواء تبناها علمانيون، أو إسلاميون، تركة الحكم العسكري من تيارات سياسية غائبة عن اللحظة الزمنية، وغارقة في خلافاتها الصغيرة، وأطماعها، باقية معنا، ولا يعني انتصار الثورة الحقيقي، سوى القدرة على انتزاع الأجيال الجديدة من هذه الحاضنات الفاسدة، واستخدام السياسة في احتوائها وتطويرها، لا إلغائها وتهميشها الذي يعد ضربا من المستحيل، لن تحققه ثورة حريات، كما لم تستطع يوما أن تحققه أنظمة عسكرية استبدادية بقوة السلاح والاعتقالات.

إن الحاجة أم الاختراع، كما أن الحاجة السياسية هي أم التنازل، فإذا تصور فصيل بعينه، أيا كان حجمه، أو حجم ما قدمه، قدرته على أن يمر بما يريد دون الآخرين فهو واهم، سيظل الجميع هنا، ولن ينجح الجميع إلا بالجميع، هذه الدولة أعمق مما نتصور، ولن يكفي اصطفافنا وحده ما لم يكن منظما، وواعيا، ومتجاوزا لأخطاء الماضي، التي وقع فيها الجميع بنسب مختلفة، والأهم: متسامحا، وواعيا بحتمية التنازل.


(مصر)

المساهمون