الدولة الحديثة والإسلام: استحالة اللقاء

23 نوفمبر 2014
(الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة والمعضلة الأخلاقية للحداثة، 2013)
+ الخط -
يُجادل وائل حلاق، أستاذ الفكر الإسلامي في جامعة كولومبيا، في هذا الكتاب المفاجىء أن تعبير "دولة إسلامية" ينطوي على تناقض جوهري، يعكس تناقض فكرة الدولة الحديثة مع الشريعة.

ويرى أيضاً أن الشريعة الإسلامية، وعلى مدار اثني عشر قرناً، شكلت منظومة أخلاقية كاملة ومتكاملة في المجتمعات التي خضعت للحكم الإسلامي. ولكن هذا الواقع تغيّر في بداية القرن التاسع عشر على أيدي أوروبا الاستعمارية. فالنظام السياسي والاقتصادي الذي كان يُسيّر المجتمعات الإسلامية تم تفكيكه وتقليصه إلى أبعد حد. وبرغم ذلك التفكيك والتقليص وما أضيف إليهما من استئصال الحكومات الحالية للقوانين المستمدة من الشريعة، فهي ما زالت تشكل إرثاً معنوياً للكثير من المسلمين.

يقول حلاق إن التناقض الحاد بين نظام الدولة الحديثة وبين الشريعة الإسلامية سببه تأسُّس الحداثة على منظومة "لا أخلاقية" ما كان للحكم الإسلامي أن يقبل بها، وفي الوقت نفسه، لم يمكن للدولة الحديثة القائمة على الوضعية والعقل أن تقبل بمنظومة الإسلام الأخلاقية.

وهكذا فإن أحد أهم أسباب صعوبة تبني نظام الدولة الحديثة في العالم الإسلامي يكمن في أصولها الأوروبية بامتياز، ولأنها وبحكم الواقع فاقدة لكل ما هو إسلامي في تاريخها وتكوينها، ولذا يضطر المسلمون إلى مسايرة الحداثة رغم أنهم لم يساهموا قطعا في صنعها. في المقابل، يعيش الغرب حداثته بارتياح واضح، وفي واقع له جذور تاريخية صنعها بنفسه. وقد حدد معالم هذا الواقع عصر التنوير الأوروبي الذي يشكل الإطار المعرفي الرئيسي للحضارة الغربية، وكان من أحد أهدافه تحييد جميع الأطر الدينية والأخلاقية التقليدية والاستعاضة عنها بأخرى تقوم على التفكير المنطقي والنقدي. وهنا يشكك الكاتب في تطلعات عصر التنوير وقدرته في أن يخلق حضارة عقلانية إنسانية عالمية.

وإذا كانت الدولة الحديثة تعد أهم منتجات الحداثة، فإنها وفي الوقت ذاته، بحسب حلاق، أحد أهم معوقات إقامة حكم إسلامي، بسبب إيلائها السيادة الأولوية القصوى، فيما الحكم الإسلامي يولي الشريعة تلك الأولوية. كما لا يوجد أية مؤسسة مستقلة عن الدولة الحديثة، الأمر الذي يفسر اعتبار أميركا والدول الأوروبية دولاً حديثة وناجحة، بينما الدول الإسلامية ليست دولاً إلا بالاسم فقط، لافتقادها جميع مقومات الدول الحديثة، وبسبب ولاءات منافسة للدولة سواء قبلية أو دينية.

مقابل الهجوم الضاري للكاتب على الحداثة، هناك دفاع مستميت عن منظومة الحكم الإسلامي، وهي تشكل بحسب تعبيره نظاماً يقوم على منظومة أخلاقية مستمدة من الشريعة. وهنا يقارن الكاتب بين هدف الدولة الحديثة وهو ضرورة بقائها، وبين هدف الحكم الإسلامي المتمثل في نشر سيادة الله ومصلحة الأمة. وفي حين تعبر الأمة عن إرادتها عبر إجماع فقهاء مستقلين تماماً عن السلطة التنفيذية، كما يفترض حلاق، يقدم زعما عريضا وتاريخيا بأن السلاطين خلال حقب الحكم الإسلامي لم يكن لهم سلطة حقيقية باستثناء ما سمح به الفقهاء، إذ يقول: "تحت الشريعة لم يتمتع السلطان ورجاله بأية حصانة"، بل كانوا يعاملون كبقية الناس. وبينما يعيش الفرد في الدولة الحديثة من أجل استمرارية الدولة، فإنه تحت الحكم الإسلامي يعيش فقط من أجل عبادة الله وطاعته. وهكذا يجرد الكاتب الحضارة الغربية من أية منظومة إخلاقية فيما يعطي التاريخ الإسلامي صبغة ملائكية.

أما عن سيادة الله تحت الحكم الإسلامي، فيضرب الكاتب مثلاً نظام الزكاة في الإسلام، فقد جعل الله الاعتناء بالفقراء جزءاً من الشريعة، وجعل لهم حقاً في مُلك الأغنياء، والذي هو بدوره مُلك لله. لذلك فالله هو المشرّع الأعلى. ومن هنا ينبع انعدام إمكانية وجود دولة إسلامية، فالدولة الحديثة لا تقبل أي منازع لها في السيادة، ولا حتى الله. فوجودها مرتهن بعدم وجود سيادة منافسة لها. وهنا يغيب تماما عن الكاتب أن الشريعة يكتبها ويفسرها بشر يتحكم في مصائرهم حكّام لا يهمهم، كما تدعم شواهد التاريخ، إلا استمرارية حكمهم.

ويرى الكاتب أن من إرث عصر التنوير أن أصبحت النظرة العلمية للأشياء تعني أن نتعامل معها بدون مشاعر وبحيادية، فالحداثة استبدلت النصوص الإلهية بالعقل والمنطق. وهذا يتضارب مع الحكم الإسلامي الذي لم يفصل بين ما هو قانوني وما هو أخلاقي.

ومما يعترض عليه الكاتب في الدولة الحديثة واقع أن مواطنيها يموتون من أجلها، بينما في حقيقة الواقع لا يوجد مبدأ التجنيد العسكري في الإسلام. حيث يذكر الكاتب أنه في التاريخ الاسلامي، كان الجنود هم من العبيد الذين يؤخذون من عائلاتهم وتكرس حياتهم لهدف خوض الحروب. في حين لم يضطر عامة المسلمين أن يشاركوا في هذا المجال، ولا يتوقف حلاق عند حقوق هؤلاء العبيد من غير المسلمين، وأخلاقية استغلالهم بتلك الطريقة من قبل المسلمين.

ويختم الكاتب أطروحاته بحثّ المسلمين على التأثير في الحداثة بقدر الإمكان لجعلها تتأثر بالمنظومة الأخلاقية المستمدة من الشريعة رغم الصعوبات التي ستواجهها مهمة كهذه، بل ويقول "هناك الكثير مما قد يفيد به المسلمون أخلاق الحداثة". لذا يبدو كأن المسلمين بأخلاقهم المثالية، عليهم واجب إنساني بأن يقفوا أمام عقبات الحداثة ومحاولة أسلمتها، لكي تصبح أكثر إنسانية. وبالرغم من إلمامه المبهر بالفلسفة الأوروبية، يجحف الكاتب في الاعتراف بانتصارات للحداثة في أي مجال كان.

(نادية عويدات باحثة متقدمة في مؤسسة أمريكا الجديدة ـ واشنطن)

المساهمون