بدأت السلطات الأمنية والقضائية الدنماركية، منذ بداية يوليو/ تموز الحالي، التحقيق في قضايا تتعلق بملاحقة مجرمي الحرب في سورية، أمام المحاكم الوطنية المحلية، بحسب معلومات حصل عليها "العربي الجديد" في كوبنهاغن.
وشهدت البلاد، خلال الأشهر الماضية، جدالاً بشأن القضية، بعد تضاؤل الآمال بقيام المحكمة الجنائية الدولية بالأمر نتيجة المعارضة الروسية بشكل أساسي، وتزايد عدد الدول الأوروبية التي تلاحق مجرمي الحرب أمام محاكمها.
ورأى مؤيدو فتح المحاكم المحلية أبوابها، من خلال المدعين العامين في مختلف مدن الدنمارك، في هذه الخطوة فرصة لتحقيق بعض العدالة للضحايا السوريين، الموجودين على الأراضي الدنماركية، حتى لو لم يكن مرتكبو الجرائم قد غادروا سورية.
ويبدو أنّ السلطات الرسمية في كوبنهاغن بدأت تنتهج سياسة دول في الجوار، كالنرويج والسويد اللتين بدأتا أخيراً منح الأجهزة الأمنية، وبالتنسيق مع المدعين العامين، التحقيق بشكل سري في قضايا وملفات جنائية مرتبطة بجرائم حرب في سورية لمقيمين بصفة لجوء على أراضيهما، هذا بالإضافة إلى تسلح هؤلاء بخطوات ألمانية وفرنسية، بدأت عملياً بملاحقة ضباط قاموا بتعذيب لاجئين من سورية، وحضر بعض الجلادين بصفة لاجئين أيضاً.
ووفقاً لمعلومات "العربي الجديد" في كوبنهاغن، فإنه عملياً، وبعيداً عن الأضواء، "بدأت الأجهزة الأمنية في الدنمارك فحص قضايا للاجئين من مؤيدي النظام السوري، الذين يُعتقد بارتكابهم جرائم حرب وعمليات تعذيب وقتل".
وبحسب مصادر خاصة بـ"العربي الجديد" فضلت عدم ذكر اسمها، فإنّ "الاستخبارات الدنماركية وشرطة مكافحة الجرائم الدولية توصلتا، بمساعدة منظمات حقوقية أوروبية، إلى أدلة عن ارتكاب أصحابها جرائم في سورية".
خطوة في الاتجاه الصحيح
ويعتبر "المركز الدنماركي لمناهضة التعذيب" (ديغنتي) التطورات الأخيرة "إيجابية جداً، وخطوة في الاتجاه الصحيح بانضمام المحاكم الدنماركية إلى نظيرتها الأوروبية في ملاحقة الجلادين".
واعتبرت المديرة القانونية السابقة في "ديغنتي" تيريزا روتر، في تصريحات صحافية، أنه "يمكن للدنمارك المشاركة في ضمان حل الجرائم ومحاكمة المسؤولين عنها، كما في دول أوروبية أخرى، لوضع حد للإفلات من العقاب السائد منذ بداية الحرب السورية قبل سنوات".
وقال الناشط القوقي الفلسطيني-السوري حسن ع. في آرهوس (وسط غرب الدنمارك)، لـ"العربي الجديد"، والذي فضل عدم ذكر اسمه كاملاً، لأن عائلته تقطن في مناطق سيطرة النظام السوري، أنه "يمكن لأي متضرر قادر على توثيق انتهاكات جسيمة أن يتقدم للمدعي العام في شرطة شرق جوتلاند لفتح تحقيق أمام قضاة التحقيق في المحاكم الابتدائية في الأقاليم الدنماركية".
ويفيد أحد الناشطين السوريين، ويدعى عمر، والذي اشترط عدم ذكر اسمه كاملاً لأسباب أمنية أيضاً، ومن المقيمين في غرب الدنمارك منذ 2014، بأنه يتعاون مع بعض الأصدقاء من حماة وحمص في الدنمارك والسويد "لتقديم شكاوى متعلقة بمذبحة حصلت في الحولة، وأعلمنا بعض الحقوقيين أنه حتى لو لم يكن من نتهمهم مقيمين في الدنمارك، يمكن ملاحقتهم أمام المحاكم المحلية".
ويحث عمر، في حديثه مع "العربي الجديد"، "كل من لديه أدلة على أشخاص في الدنمارك أو السويد والنرويج، ممن حضروا بصفة لاجئين وشاركوا في اضطهاد وارتكاب جرائم تعذيب وقتل، أن يقدمها إلى السلطات الدنماركية".
ومنذ أن بدأ النقاش حول صلاحية المحاكم الوطنية في التحقيق بمثل هذه القضايا، أبدى بعض المختصين الحقوقيين رأيهم في الموضوع، وعلى رأسهم القاضي السابق في محكمة لاهاي لجرائم الحرب اليوغسلافية، فريدرك هوف، الذي اعتبر "انضمام الدنمارك لبقية الدول، للفحص والتدقيق بوجود مجرمي حرب من سورية على أراضيها، يساعد على خلق زخم لصلاحية المحاكم الوطنية (الأوروبية)".
ويستمع عادة بشكل جيد لرأي هذا القاضي والخبير في القانون الدولي، حيث يعتبر الصلاحية الوطنية للمحاكم، "في ظل تعطيل دور المحكمة الجنائية الدولية وعدم إقامة محاكم إقليمية، كما حدث في جرائم رواندا، تبقى حالياً المحاكم الوطنية الخيار الأفضل ليتحمل المجتمع الدولي مسؤوليته إزاء الجرائم المستمرة منذ 2011".
وجدير بالذكر أنه لسنوات طويلة لم يستطع المجتمع الدولي جلب مجرمي الحرب في سورية إلى القضاء أمام الجنائية الدولية أو إنشاء محاكم إقليمية عربية، على غرار المحكمة الأفريقية، برعاية دولية.
لسنوات طويلة لم يستطع المجتمع الدولي جلب مجرمي الحرب في سورية إلى القضاء أمام الجنائية الدولية
واستمر نظام بشار الأسد باستهداف البنية التحتية المدنية، بما فيها هجمات بأسلحة كيميائية، وقصف أرضي وجوي للمستشفيات والمدارس وتجمعات المُهجرين، والإخفاء القسري لعشرات آلاف السوريين واضطرار الملايين للهجرة الداخلية والخارجية عن بيوتهم، منذ 2011.
واضطرت المدعية العامة السويسرية كارلا ديل بونتي لترك منصبها احتجاجاً على غياب الإرادة السياسية الدولية لمحاسبة مجرمي الحرب في 2018، بعد تحقيقات لسنوات في اللجنة الخاصة لجرائم الحرب التي شكلتها الأمم المتحدة.
ومع استمرار الحماية الروسية لنظام الأسد، منذ تدخل موسكو على الأرض في سبتمبر/ أيلول 2015، تفاقمت معاناة السوريين، وبدأ كثيرون يفقدون الثقة بتحقيق العدالة أمام ما تقول عنه لجان أممية متخصصة "جرائم حرب وضد الإنسانية" ارتكبت على مدار سنوات الحرب السورية.
ويبدو أنّ البارقة المتبقية لهؤلاء هي اللجوء إلى المحاكم الوطنية في الغرب، لا سيما مع تزايد أعداد الدول التي تسمح بملاحقة أركان النظام ومنفذي تلك الجرائم أمام محاكمها.
ورغم أنّ الأجهزة الأمنية في الدنمارك تواجه في السياق مهاماً معقدة، إلا أن الإرادة السياسية واتساع التنسيق في دول أوروبا ربما يسهل، بحسب فريدرك هوف، جمع الأدلة والبحث في الجرائم الموثقة، وخصوصاً بوجود ضحايا وأقرباء لهم في غرب وشمال أوروبا.
ومنذ سنوات جمعت منظمات مختلفة أدلة على جرائم الحرب، وبالأخص تلك التي ارتكبها النظام وداعموه، من أجل مشاركتها مع مختلف السلطات حول العالم. ومن بين تلك المنظمات "المركز الأوروبي للحقوق الدستورية والإنسانية"، و"لجنة العدالة والمساءلة الدولية"، والتي جمعت نحو 800 ألف وثيقة مؤرشفة في مكان سري في أوروبا.