أصدرت الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري التونسي، بياناً إثر اجتماعها الذي تطّرق إلى النظر في عدد من المسلسلات الرمضانية، بسبب ما أثارته من جدل، وما احتوته من مشاهد اعتبرها كثيرون غريبة عن العادات والتقاليد التونسية، أشارت فيه إلى أنّ "بعض الأعمال الدراميّة جاءت محمّلة بنسبة عالية من العنف بجميع أنواعه: الجسدي واللفظي والنفسي، والذي لم يكن دائما موظفا التوظيف الأمثل في السياق الدرامي، فبدا وكأنه مجاني ومبالغ فيه، وهو ما من شأنه التأثير السلبي في فئات واسعة من المشاهدين، خاصة الشرائح الاجتماعية الهشة، مثل الأطفال والمراهقين والمراهقات"، كما نوهت "إلى أنّ عددا من هذه الأعمال قدمت صورة مشوهة للمرأة، من خلال تناول درامي افتقر إلى التكثيف، وغلب عليه التنميط والاستسهال والاكتفاء بزاوية نظر واحدة، وهو ما يبعث على الخشية من أن يشكل ذلك امتدادا لـ "ثقافة" برامج تلفزيون الواقع التي كرّست تنميط صورة المرأة، وسلوك التلصص على خصوصيات الآخر، وعرض معاناة الناس مجتثة من سياقاتها الاجتماعية والثقافية".
نعم جاء هذا البيان بعد جدل واسع أثارته الأعمال الدرامية التونسية في رمضان 2015، التي شهدت نقلة نوعية في طريقة تقديمها وعرضها، فتونس تخوض حرباً في الأفكار المنحلة والمتشددة بذات القدر الذي تخوض فيه الحرب على الإرهاب في الآونة الأخيرة، حيث رفع العديد سلاحه عبر وسائل الإعلام المحلّية، باعتبارها أفضل وسيلة للاختراق بطرق سلمية تخول زرع الفتن ومحاربة العقول، والانتقال من حرب السلاح والدبابات المباشرة إلى بناء نمط مجتمعي مغاير يستبيح الأخلاق ويستتر بالفنّ والإبداع، في سعي من صنّاع الدراما لتسويق منتوجاتهم بطرح مصطلحات وأفكار ظلّت لسنوات تابوهات من جهة، وفي تمرير رسائل مبطنة إلى التونسيين من جهة أخرى، لتساهم في نشر ما يقدّم من سلبيات وتثبت قاعدة اعتياد الناس عليها باعتبارها أمراً واقعاً، فقد كشفت أولى حلقات المسلسلات التونسية لرمضان هذه السنة، المستور بخصوص الإرادة القوية في تغيير نمط المجتمع التونسي الذي ظلّ لسنوات يقتصر على إنتاج درامي وحيد يحترم عادات وتقاليد الشعب، إلى أن باغتت الفضائيات التونسية المشاهد بلوحات يندى لها الجبين، وأحداث قد نفرت منها الأخلاق تلخص أغلبها حول التشرذم العائلي، والخيانة، المخدرّات والخمر، فجريمة هنا، وحب فاضح هناك، تبرج فاحش مثير ارتكز على جميلات الشاشات، يعمل على إفساد المرأة والرجل ويثير الغرائز.
ليس سلبياً أن يتناول العمل الدرامي مواضيع تتعلق بالجنس أو الدين أو السياسة أو الحب وغيرها من واقع المجتمع، شريطة أن يُتقن توظيف هذه الحالات لصالح الدراما لتتمكن من إنارة الرأي العام، وليتم عبرها معالجة قضايا المجتمع وتقديم البديل أو الحلول لعلاج الواقع، إضافة إلى تسليط الضوء على الأسباب التي أدت لهذه النتائج، وهنا تكمن وظيفة القائمين على العمل في كيفية تقديم الأفكار دون خدش للحياء العام أو المساس من هوية المجتمع، وتجنب بذلك الوقوع في وحل الابتذال ومستنقع الفساد، فيمكن أن يسهم الفنّ لما يحمله من أهمّية في رفع مستوى الواقع المجتمعي، من خلال تجسيد قضايا وسلبيات المجتمع في أعمال فنية مختلفة بطرق هادفة.
إن كانت هناك معالجة حقيقية ابتداءً بالنصّ وانتهاءً بآخر واستناداً على عمق الطرح، فلا داعي أن يكون هناك جرعة زائدة من الجرأة والانحلال؛ لأننا حينها أمام خرق للخطوط الحمراء، وتفكيكها لن يحمل سوى رصاصة الموت لبنية مجتمعاتنا وأسرنا؛ فالفنّ يستطيع أنّ يؤدي رسالته التوعوية التي تخوله مساعدة المجتمع على إيجاد حلول بعض المشكلات التي تعتريه، دون امتهان الابتذال الذي يساعد على تعميق المشاكل، فالجرأة المفرط فيها والابتذال مرآة مشوهة للمجتمع.
يساهم غياب البرامج التوعوية الدينية والثقافية الهادفة في سقوط المشاهد، رغم سخطه على المحتوى في فخّ وشراك كلّ من يتربصّ بهوية المجتمع؛ فالإعلام بتفرع مناهجه سلاح ذو حدين، هادف وهادم، علينا تغليب الجانب الهادف بوسائل التأثير المتاحة وإقناع الأغلبية بتلقي الصالح والمفيد من الإعلام، وترك ما هو ضار وغير نافع بطرق جذّابة ومقنعة، خصوصاً أنّ عديد الدراسات السابقة أكد أن الفضائيات العربية تحوّلت في شهر رمضان إلى وحشٍ يبتلع الجمهور، حيث أصبحت المسلسلات نوعاً من التجارة أمام التخلّي الصارخ على مضمون العمل، خضوعا لسوق المنافسة الإعلامية وطاعة لجاذبية الابتذال، إضافة إلى أنها تهتم بالأساس بالدراما الاجتماعية والترفيهية، على حساب الثقافة الدينية.
أصبح الخطر يحدق بشبابنا من كلّ حدب وصوب؛ فأغلب عمليات التغرير بالشباب نحو التشدد والانحلال باتت تتم عبر وسائل التكنولوجيا الحديثة، لذلك تكمن اليوم الصعوبة في كيفية الحفاظ على الهوية الخاصّة بمجتمعنا وبوطننا، في ظلّ ما يتهددها من أخطار العولمة ومؤسساتها، وهو الأمر الذي لا يعني انتهاج الانكفاء على الذات واعتزال العالم، وإنما في إكساب المناعة والحصانة لكل فرد، من خلال تربية متينة ترتكز على تزويده بالمعارف والقيم و المبادئ، وتعمل على توفير المناخات الاجتماعية والاقتصادية الملائمة لتكون حاضنة له، فالشباب التونسي بصفة خاصة والعربي بصفة عامة الآن ينصهر ضمن كتلتين، الأولى تتعلق بالتفاعل مع التكنولوجيا القادمة والتدفق الإعلامي والمعلوماتي القادم إليه عبر الإنترنت من جهة والقنوات الفضائية من جهة أخرى، أما الثانية فتتعلق بالانعزال عن التكنولوجيا والحفاظ على الهوية العربية بخصوصيته الثقافية.
في النهاية لا يتعين علينا أن نلغي الجانب الفني، بل علينا تأسيسه عن طريق بيئة فكرية وثقافية حافزة تحمل توازنا بين الأصالة والحداثة، تستمدّ من الأولى جاذبيتها ومن الثانية انفتاحها على العالم تنبذ الابتذال وتقصي الانحلال.
(تونس)
نعم جاء هذا البيان بعد جدل واسع أثارته الأعمال الدرامية التونسية في رمضان 2015، التي شهدت نقلة نوعية في طريقة تقديمها وعرضها، فتونس تخوض حرباً في الأفكار المنحلة والمتشددة بذات القدر الذي تخوض فيه الحرب على الإرهاب في الآونة الأخيرة، حيث رفع العديد سلاحه عبر وسائل الإعلام المحلّية، باعتبارها أفضل وسيلة للاختراق بطرق سلمية تخول زرع الفتن ومحاربة العقول، والانتقال من حرب السلاح والدبابات المباشرة إلى بناء نمط مجتمعي مغاير يستبيح الأخلاق ويستتر بالفنّ والإبداع، في سعي من صنّاع الدراما لتسويق منتوجاتهم بطرح مصطلحات وأفكار ظلّت لسنوات تابوهات من جهة، وفي تمرير رسائل مبطنة إلى التونسيين من جهة أخرى، لتساهم في نشر ما يقدّم من سلبيات وتثبت قاعدة اعتياد الناس عليها باعتبارها أمراً واقعاً، فقد كشفت أولى حلقات المسلسلات التونسية لرمضان هذه السنة، المستور بخصوص الإرادة القوية في تغيير نمط المجتمع التونسي الذي ظلّ لسنوات يقتصر على إنتاج درامي وحيد يحترم عادات وتقاليد الشعب، إلى أن باغتت الفضائيات التونسية المشاهد بلوحات يندى لها الجبين، وأحداث قد نفرت منها الأخلاق تلخص أغلبها حول التشرذم العائلي، والخيانة، المخدرّات والخمر، فجريمة هنا، وحب فاضح هناك، تبرج فاحش مثير ارتكز على جميلات الشاشات، يعمل على إفساد المرأة والرجل ويثير الغرائز.
ليس سلبياً أن يتناول العمل الدرامي مواضيع تتعلق بالجنس أو الدين أو السياسة أو الحب وغيرها من واقع المجتمع، شريطة أن يُتقن توظيف هذه الحالات لصالح الدراما لتتمكن من إنارة الرأي العام، وليتم عبرها معالجة قضايا المجتمع وتقديم البديل أو الحلول لعلاج الواقع، إضافة إلى تسليط الضوء على الأسباب التي أدت لهذه النتائج، وهنا تكمن وظيفة القائمين على العمل في كيفية تقديم الأفكار دون خدش للحياء العام أو المساس من هوية المجتمع، وتجنب بذلك الوقوع في وحل الابتذال ومستنقع الفساد، فيمكن أن يسهم الفنّ لما يحمله من أهمّية في رفع مستوى الواقع المجتمعي، من خلال تجسيد قضايا وسلبيات المجتمع في أعمال فنية مختلفة بطرق هادفة.
إن كانت هناك معالجة حقيقية ابتداءً بالنصّ وانتهاءً بآخر واستناداً على عمق الطرح، فلا داعي أن يكون هناك جرعة زائدة من الجرأة والانحلال؛ لأننا حينها أمام خرق للخطوط الحمراء، وتفكيكها لن يحمل سوى رصاصة الموت لبنية مجتمعاتنا وأسرنا؛ فالفنّ يستطيع أنّ يؤدي رسالته التوعوية التي تخوله مساعدة المجتمع على إيجاد حلول بعض المشكلات التي تعتريه، دون امتهان الابتذال الذي يساعد على تعميق المشاكل، فالجرأة المفرط فيها والابتذال مرآة مشوهة للمجتمع.
يساهم غياب البرامج التوعوية الدينية والثقافية الهادفة في سقوط المشاهد، رغم سخطه على المحتوى في فخّ وشراك كلّ من يتربصّ بهوية المجتمع؛ فالإعلام بتفرع مناهجه سلاح ذو حدين، هادف وهادم، علينا تغليب الجانب الهادف بوسائل التأثير المتاحة وإقناع الأغلبية بتلقي الصالح والمفيد من الإعلام، وترك ما هو ضار وغير نافع بطرق جذّابة ومقنعة، خصوصاً أنّ عديد الدراسات السابقة أكد أن الفضائيات العربية تحوّلت في شهر رمضان إلى وحشٍ يبتلع الجمهور، حيث أصبحت المسلسلات نوعاً من التجارة أمام التخلّي الصارخ على مضمون العمل، خضوعا لسوق المنافسة الإعلامية وطاعة لجاذبية الابتذال، إضافة إلى أنها تهتم بالأساس بالدراما الاجتماعية والترفيهية، على حساب الثقافة الدينية.
أصبح الخطر يحدق بشبابنا من كلّ حدب وصوب؛ فأغلب عمليات التغرير بالشباب نحو التشدد والانحلال باتت تتم عبر وسائل التكنولوجيا الحديثة، لذلك تكمن اليوم الصعوبة في كيفية الحفاظ على الهوية الخاصّة بمجتمعنا وبوطننا، في ظلّ ما يتهددها من أخطار العولمة ومؤسساتها، وهو الأمر الذي لا يعني انتهاج الانكفاء على الذات واعتزال العالم، وإنما في إكساب المناعة والحصانة لكل فرد، من خلال تربية متينة ترتكز على تزويده بالمعارف والقيم و المبادئ، وتعمل على توفير المناخات الاجتماعية والاقتصادية الملائمة لتكون حاضنة له، فالشباب التونسي بصفة خاصة والعربي بصفة عامة الآن ينصهر ضمن كتلتين، الأولى تتعلق بالتفاعل مع التكنولوجيا القادمة والتدفق الإعلامي والمعلوماتي القادم إليه عبر الإنترنت من جهة والقنوات الفضائية من جهة أخرى، أما الثانية فتتعلق بالانعزال عن التكنولوجيا والحفاظ على الهوية العربية بخصوصيته الثقافية.
في النهاية لا يتعين علينا أن نلغي الجانب الفني، بل علينا تأسيسه عن طريق بيئة فكرية وثقافية حافزة تحمل توازنا بين الأصالة والحداثة، تستمدّ من الأولى جاذبيتها ومن الثانية انفتاحها على العالم تنبذ الابتذال وتقصي الانحلال.
(تونس)