الخليج والعنصرية والارتزاق

31 أكتوبر 2018
+ الخط -
تسبّبت الإيرادات الهائلة للثروة النفطية، ولا سيما منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي، بنشوء أمراضٍ اجتماعية في بلدان الخليج، كان من أشدّها خطورة انتشار وهمِ تفوقٍ غيرِ قائمٍ على أي إنجاز علمي أو أدبي أو إنساني، لدى فئاتٍ واسعةٍ من أبناء المنطقة، ونخبها الحاكمة، في مقابل سيادة ظنٍّ غير مبرّر، بين هؤلاء أنفسهم، بدونية شعوب الجوار العربي الفقير الذي دفع مبكراً المتعلمين والأيدي العاملة من أبنائه، ليبيعوا خبراتهم وقوة عملهم في أسواق الأشقاء.
ولم تقتصر تعبيرات هذه الظاهرة، في بداياتها الجنينية، على ما يمكن وصفها بالإجراءات والممارسات الاستعلائية التي كان المقيمون في بلدان الخليج يتعرّضون لها، وإنْ بتفاوتٍ نسبي بين بلد وآخر، بل إن الجهل أخذها كل مأخذ، حتى صار الشعور بالتميّز لدى خليجيين كثر يعبر عن نفسه أيضاً بالبذخ الذي كان من شأنه، وللمفارقة، أن أدّى إلى نتائج مغايرة لما أراد أصحابه، وعزّز الصورة النمطية الاستشراقية الرائجة عن العرب في الغرب، بوصفهم مجموعاتٍ بشرية بدائية تغرق في الملذات.
الأمثلة على ذلك، تاريخياً وراهناً، باتت أكثر من أن تُحصى، لكن جديدها بلغ من الفحش مستوىً مذهلا، وأظهر على نحو غير مسبوق أننا أمام عنصريةٍ شوهاء، بدأت إفرازاتها بالطفو على السطح مع اندلاع الأزمة الخليجية التي نجمت عن قرار السعودية والإمارات والبحرين ومصر فرض حصار على قطر، وتكشّفت عن فهم يكاد يكون سائداً في بلاد النبي الذي بدأ حياته راعي غنم، مؤدّاه أن المال والأخلاق توأمان سياميان، ومن لا يملكون الثروة لا يملكون الشرف، وفق لغة الاتهامات المتكرّرة بحق من اعترضوا على موقف الدول الأربع، فتغيّر وصفهم من "الأشقاء" إلى "عرب الشمال" في الأدبيات غير المؤدبة لمواقع إعلام اجتماعي، يُشرف عليها الديوان الملكي السعودي.
وإن يكن أمير قطر تميم بن حمد آل ثاني هو الزعيم الخليجي الوحيد الذي تنبه إلى خطر استفحال الظاهرة الجديدة القديمة، وحاول التصدّي لها، منذ بداية الأزمة الخليجية، بالتعبير علناً عن اعتزازه بالمواطنين والمقيمين على حد سواء، فإن محرّكي الموجة العنصرية، وبدلاً من مراجعة حساباتهم، أمعنوا فيها إلى حدٍّ صارت معه كلمة "مُشَرَّد" شتيمةً يطلقها السعودي الموالي لِحُكم سلمان بن عبد العزيز، وولي عهده، على الفلسطيني المنكوب بالغزو الاستعماري الصهيوني، والسوري المنكوب بالديكتاتورية الطائفية المتوحشّة، كما صارت كلمة "مرتزق" حاضرة على كل لسان غير ممنوع من الكلام في بلاد الحرمين الشريفين، ليرمي بها أي عربي يختلف معه، قبل أن تقع جريمة قتل الصحافي جمال خاشقجي، داخل القنصلية السعودية في إسطنبول، وينهمر معها سيل المفردات العنصرية والشتائم البذيئة ضد كل من دعا إلى ملاحقة القَتَلَة، ثم ليتضح أكثر أن الارتزاق أو التخلي عن القِيم الإنسانية في مقابل الرشوة المالية، يُمكن أن يتورّط فيه أيضاً المواطن، ابن البلاد، "ذبابةً إلكترونيةً" كان أو حتى كاتباً سياسياً، حين يتنطّح للدفاع عن مرتكبي عملية ذبح راح ضحيتها "المواطن الآخر" الذي كان هذه المرة كاتباً سياسياً ينادي بحق أولئك جميعاً في الحرية.
ولن يكون من غير ذي دلالةٍ عميقةٍ هنا توازي لغة الاستعلاء التي استخدمها أبناء "السعودية العظمى" وفق تعبيرهم، في محاججة من يسمّونهم "عرب الشمال" حول مقتل خاشقجي، مع أسلوب الانبطاح الذي لجأت إليه قيادتهم في محاولاتها نيل غفران السيد الأميركي، لكن الأعمق والأخطر سيظل ماثلاً في نهجٍ يزاوج تبديد مليارات الدولارات على شراء اليخوت والقصور، بجرائم قتل مروّعة، فيعزّز بذلك، مرة أخرى، مزاعم قدامى المستشرقين عن عرب متوحشين غير قادرين على حكم أنفسهم، ويفتح شهية الرئيس دونالد ترمب لـ "حَلْب" هؤلاء الذين يملكون مالاً كثيراً، بحسب المفردة المهينة التي درج على استخدامها، من دون أن يردّ عليه أحد منهم بمجرد كلمة.
EA99C928-BF02-4C77-80D6-9BE56F332FDE
ماجد عبد الهادي

صحفي وكاتب فلسطيني