في السنوات الأخيرة، انتشر مصطلح مخاتل وملتهب، متعدّد الوجوه والاستعمالات، ويصلح في أكثر من مجال، دُعي بـ"الخطوط الحمراء"، أي أن هناك خطوطاً يحرم الاقتراب منها، وبما يتجاوز المنع إلى العقاب، ويشمل الأمور الأمنية المخابراتية، وأسرار الدولة العليا، وهيبة الرئيس... وطبعاً تشمل ساحات القتال، لا سيما استعمال الأسلحة المحرّمة كالسلاح الكيميائي الذي أفرط النظام السوري في استخدامه من دون محاسبة أو مساءلة، وكأنه استُثني من قائمة الخطوط الحمراء.
وإذا كانت الأسلحة الكيميائية تهمّنا، وهذا وقتها، لكن كما يبدو على الأرض هي شأن الدول الكبرى، وإن دفع الثمن الأهالي المدنيّين العزّل. المؤسف أن هذا المدخل يثير الغضب والاستنكار، ولا يمكننا المضي فيه، فالدول الكبرى تتلاعب بالخطوط الحمراء حسب مآربها، أو تغضّ النظر عنها، وقد تُتهم الضحية، ما يدلنا إلى أنها خطوط مرنة، تغيّر ألوانها، فينقلب الأحمر إلى أخضر مع التباين بينهما، مع إن أحدهما يمنع والثاني يسمح.
وإذا كنا سننعطف نحو الأدب والفن، فلأن هذه الخطوط تمدّ سلطتها الى محراب الثقافة، فالرقابة على الفكر والأدب والفن، لم تعد تقتصر على المنع فحسب، بل سُلّط عليها سيف العقاب، تحت العنوان الذي لم يكن يشملها وهو تجاوز الخطوط الحمراء. وجرى إحالتها إلى ما يهدّد السِّلم الأهلي، فارتفع مقام الكاتب من ناحية العقاب، وأصبح الحكم عليه بالسجن عدة سنوات، وربما الإعدام الميداني، أو الموت تحت التعذيب، والإعدام شنقاً غير مستبعد ووارد في البلد نفسه الذي حلّلت فيه السلطة استخدام السلاح الكيميائي. ما اضطرمنظّمات دولية إنسانية إلى التدخل دونما جدوى.
لم يكن ينقصنا سوى هذه الفضائح التي أكثر ما تنال بلادنا غير الديمقراطية، بينما في الدول الديمقراطية في أميركا مثلاً تمنع القوانين التعرّض للمثقف بالعقاب، ووجدوا حلاً باغتياله من قبل منظمات إرهابية غير مسؤولة، بينما اختصّ المجانين باغتيال المسلمين والفنانين المشهورين.
في عالم بات مكشوفاً، لا شيء يجري في الخفاء، أصبح العابثون بالخطوط الحمراء، والمتصدّون لها أنواعاً؛ تضمّ طالبي الشهرة، والمهووسين بالمجد، وطبعاً الباحثين عن الحقيقة، وهكذا يضيع الحابل بالنابل، ما أدى إلى تنادي مثقّفين أوفياء للأنظمة الحاكمة إلى المطالبة بتعريف الخطوط الحمراء، فلا تبقى
مجهولة، بوضع حدود تحذّر من التعدّي عليها، ليصبح مشروعاً للسلطات المعاقبة على اختراقها، إذ أن تجاوزها يشكّل اعتداء صارخاً على النظام، ما يضعه في موقع الدفاع عن النفس!
بهذا يقدّم مثقفون إسهاماً يبرّئ الأنظمة، بتنظير مرموق يجنّب مؤاخذة السلطة على جرائمها، ويبيّن أنها ليست على عداء مع الثقافة، طالما الثقافة على وئام مع النظام. يتميّز المثقفون الموالون أنهم يقدّمون تفسيراتهم ورؤاهم الطليعية في ثقافة الممانعة، على أنها محايدة، لئلا يُزعم أنهم يحابون سلطة رفاقهم المثقفين أو سلطة الدولة.
هذا في الرد على مزاعم أن الثقافة ليست ذات حدّين، أحدهما خائن.