ساقت لي الأقدار في بواكير 2009 أن التقيت بإحدى الزميلات، وكانت تعمل على الحصول على درجة الماجستير في مجال الترجمة الصحافية تحت إشراف أحد المشهورين في عوالم الترجمة في العالم العربي، والذي تسبب فيما بعد في أن تركت الماجستير لجرم ارتكبه في حقها، كانت هذه المرأة مفعمة بالنشاط الجهادي، ومؤمنة بغايات أسامة بن لادن وأيمن الظواهري في ذلك الوقت، ومتشبعة بقناعات أبو محمد المقدسي، المفكر الجهادي الأردني تجاه الغرب ورعاياهم في بلاد المسلمين، تزاملنا كثيرا في عالم الترجمة وتبادلنا الحجج تلو الحجج، والكتب تلو الدراسات، والمحاضرات ذات المضمون المؤدلج، ساعية من وراء ذلك إلى البرهنة على كفرية نظام مبارك وأشقائه من الحكام العرب.
استغرق النقاش حول جدوى الجهاد، ضد مبارك ورجالاته، ونظامه وأقرانه في العالم العربي طيلة عام ونيف من الزمان، دللت خلالها بكل السبل على صحة موقفها، حتى فاض بها الكيل، واضطرت اضطرارا إلى كشف بعض زوايا تجربتها في عوالم الجهاديين داخل مصر وخارجها، رغبة في التشويق والدفع بي إلى الاقتناع ومن ثم التشارك وتبني الموقف والانطلاق نحو العالمية الجهادية.
حكت لي هذه المرأة، ودعوني أسميها "منى" وللعجب، فلا أعرف لها الآن أرضا ولا فكرا ولا مقصدا، فقد تفرقت بنا السبل على إثر تنقلاتنا في أماكن عملنا، وانقطع الوصال بيننا، وهي سافرت إلى الكويت لكي تلتحق بالجهاديين في العراق، خارجة من مصر عازمة عدم العودة مرة أخرى، ومن الكويت سافرت إلى سورية، وهناك حاولت الدخول لكنها فشلت، وبعد عدة محاولات باءت بالفشل، اضطرت إلى الرحيل غاضبة إلى مصر، عازمة على تكرار التجربة إن أمكن لها ذلك وتوفرت السبل.
لا أدري ما هو مصيرها الآن، وإذا أفلح سبيلها تجاه دخول العراق، وما إذا كان سيكون لها دور كبير في تنظيم الدولة، أم أنها ستكون في عداد الموتى بعد تفجير نفسها في أي محفل شيعي أو كردي أو حتى سني يناهض قيم تنظيم الدولة، خاصة، أنها كانت ذات باع كبير في الترجمة والإعلام وصاحبة رؤى سياسية ثاقبة.
في أقصى اليسار من هذا النموذج، كانت دعاء رشاد، زوجة الضابط محمد الجوهري، المختطف في سيناء منذ 2011، وقد التقيت بها مرارا رغبة منها ومني في استمرار الزخم الإعلامي حول قضية زوجها ورفاقه المختطفين منذ ما قبل رحيل مبارك، دعاء رشاد كانت ناقمة على مبارك وما تزال، شأنها شأن المرأة الجهادية، لكن شتان بين وجهتي النظر، فدعاء ومع مرور الوقت ومع رحيل مبارك ومجيء المجلس العسكري، ثم نظام محمد مرسي، ثم نظام عبد الفتاح السيسي، أدركت أنها تعيش في "خرابة" تسمى مصر، هكذا تنعتها دائما في حديثها معي، وأنه ما عاد هناك أمل في تعديل ومعالجة اعوجاج هذا الوطن.
خاضت دعاء رشاد جولات كبيرة لمعرفة مصير زوجها، وأخفقت في السنوات الأربع الماضية، في الوصول إلى حل حتى الآن، حتى بات السيسي ومرسي ومبارك أمامها نفس الشخص وذات السياسة، مع تمنيات بمصير واحد. وكثيرا ما قارنت بين من أسميتها "منى" ودعاء رشاد، فوجدت أن غاياتهن واحدة، وهي التخلص من دولة العسكر بكل مكوناتها، ومن ثم التخلص من كل مكونات الأنظمة العربية، لكن "منى" كانت ترى الرصاصة هي الحل، في حين أن دعاء لم يكن أقصى طموحها في الخلاص سوى الرحيل وأن يواري النظام، بغض النظر عن مسمياته، على نفسه الثرى، وأن يكفيها شره.
في تجربة المرأتين يبقي الهم واحد، والألم واحد، والغاية واحدة، ولكن يبقى جل الخلاف بينهما، هو إدراكي أن دعاء رشاد تواجه ضغوطا جمة من جانب الجيش كي تحصل على لقب شهيد لزوجها، وأن يغلق ملف عودة زوجها إلى الأبد، مع بضعة جنيهات تتحصل عليهم أول كل شهر ميلادي، عوضا عن غياب زوجها الشهيد بإذن النظام وجيشه وداخليته، في حين ما زلت أجهل هل "منى" باتت في قبضة تنظيم الدولة بالفعل، أم طوتها الحياة واتجهت بها إلى مآرب أخرى.
*مصر