الخريطة العربية وسكين التقسيم

25 اغسطس 2016
+ الخط -
في القرن الماضي، وفي أحد فنادق لندن الفاخرة، جلس سايكس البريطاني وبيكو الفرنسي، واضعين أمامهم خريطة المنطقة العربية، وشرعا فيها تمزيقاً وتقسيماً، وفقا لأهواء ومطامع بريطانيا وفرنسا.
الأحداث الراهنة التي تشهدها المنطقة العربية، من حروب ساخنة واحتدام سياسي، لا يحتاج إلى عين ثاقبة، لإدراك حتمية خضوع المنطقة إلى تقسيم وتفتيت شامل ووشيك، ستنتقل عدواه بالتبعية إلى العالم بأسره، فمن لن تطاله سكين التقسيم؛ ستطاله سكين الفوضى وأعمال العنف والاضطرابات الداخلية، والسبب هو اتساع الشرخ بين التيارات المعتدلة، وسيطرة المنظمات الإرهابية والطائفية على المنطقة والعالم، وسيتجرع الغرب "رغماً عن أنفه" شيئاً ليس يسيراً، ما أذاقه للبلاد العربية على أيدي هذه التنظيمات التي أوجدها في المنطقة لتحقيق مصالحه، بعد أن ينقلب السحر على ساحره، ويتجرّع طبّاخ السم من سمه.
وبالعودة إلى البلاد العربية ومنطقة الشرق الأوسط التي باتت مرتعاً للحروب والانقلابات، فإنّ الحديث عن إرهاصات التقسيم ليس أمراً جديداً، فقد تقدّم مهندس السياسة الأميركية، هنري كيسينجر، بمشروع تقسيم للشرق الأوسط على أساس طائفي منذ 1973، ففي سورية التي رفعت الجيوش المتناحرة فيها شعار "نحكم أو ننفصل"، كانت خرائط تقسيمها مجهّزة مسبقاً قبل إعلان الحرب فيها، فقد نشرت مجلة كيفونيم الإسرائيلية عام 1982 مقالاتٍ متتابعة عن خطة إسرائيل لتقسيم سورية إلى ثلاث دويلات (علوية، سنية، كردية)، بينما يجري الحديث الآن على تقسيمها إلى أربع دويلات أو خمس، أما العراق الذي لا يعد أفضل حالاً، فهو يقع أيضا ضمن دائرة الدول المخطّط لتقسيمها مسبقاً، حيث نشرت مجلة التايمز الأميركية، عام 2008، مشروع نائب الرئيس الأميركي جو بايدين، لتقسيم العراق إلى ثلاث فيدراليات رئيسية، على أساس طائفي.
أما ليبيا القابعة تحت ويلات الحرب القبلية والتنظيمات الإرهابية المموّلة، فستطالها سكين التقسيم، وتحوّلها إلى شكل جديد يلبّي رغبات أجنبية خارجية.
الحرب الطاحنة الدائرة رحاها في اليمن، والتي ستودي به إلى دويلاتٍ يمنية جديدة، سيمتد تأثير الحرب فيه إلى ما وراء حدودها الجغرافية، ليؤثر سلباً على منطقة الخليج العربي الذي يعاني هو الآخر من مطامع غربية وإيرانية للسيطرة عليه، ونهب خيراته والتحكم من خلال موقعه في مضيق باب المندب وممر النفط عبر البحر الأحمر.
مصر هي الأخرى على أعتاب مزيدٍ من الانقسامات السياسية والفوضى الداخلية، وستشهد قيادتها اضطرابات قوية ومصادمات عنيفة مع شعبها، ستكون كفيلة بتهديد أمنها واستقرارها، أما السودان المقسّم مسبقاً، فهو مرشح إلى انقسامات جيو سياسية إضافية.
وإذا عرجنا إلى "أرض السلاطين" تركيا، فسيريعنا ما تشهده من أحداث جسيمة، في الآونة الأخيرة، جرّاء تكالب قوى كبيرة وكثيرة لإطاحتها، وإلحاقها بالركب العربي الضعيف والممزّق، فلا شك أنّ التقدّم السياسي والاقتصادي الذي أحرزته تركيا، في السنوات الأخيرة، وتحوّلها إلى قوة إسلامية إقليمية وازنة في المنطقة والعالم، جعل منها مصدر خوف وتوّجس لدول غربية وعربية كثيرة. لذا، عمدت دول كثيرة إلى التآمر عليها لإسقاطها، بدعم الانقلاب الفاشل الذي تعرّض له الرئيس التركي منتصف الشهر الماضي، والتدبير لعمليات التفجير التي استهدفت، أخيراً، أراضيها منذ أيام، وأدت إلى اختلال في سياستها الداخلية والخارجية، ما يؤكد استحالة عودة تركيا قويةً، كما كانت قبل الانقلاب، فيما يخص وحدة أراضيها وشعبها وقوة جيشها وعظم دورها الإقليمي والدولي.
إيران التي تظن أنها بعيدة كل البعد عن سكين التقسيم، كونها عنصر أساسي في تأجيج نيران الحروب في المنطقة، ستشهد انقسامات حادة وحروبا قاسية، فالدولة التي تبدو موّحدة ومستقرّة، تعيش، في حقيقتها، على براكين من خلافات الطوائف والمذاهب والأعراق المختلفة، وتبقى فلسطين الجرح الغائر، التي شرذمتها يد العدو الصهيوني إلى مناطق ال 48 و ال 76 وقطاع غزة، إذ سيشهد شعبها وأرضها ومقدساتها مزيداً من القتل والتنكيل، وتصاعد في خلافات قياداتها.
المنطقة العربية والشرق أوسطية ستشهد في سنواتها المقبلة "سايكس بيكو" جديدة، حتى تستقر الدول العظمى على الشكل الجديد للخريطة، وفقاً لمصالحها الاقتصادية والسياسية في المرتبة الأولى، يتبعه توزيع "جوائز ترضية جغرافية" للحلفاء الصغار في المنطقة.
A71C9952-EAE1-469D-9457-98146410FF09
A71C9952-EAE1-469D-9457-98146410FF09
سامية أنور دنون (فلسطين)
سامية أنور دنون (فلسطين)