لطالما خشيت بائعة الشاي، نادية الأمين، حملات المداهمة، هي التي كانت تعمل ليلا ونهارا لسد احتياجات أسرتها. لكنها لم تعلم أن هذه المهنة البسيطة قد تودي بحياتها، بعدما ارتطمت بآلة حادة أثناء محاولتها الهرب من "قادة الحملات".
تختار "سيدات الشاي" مكاناً يقيهن حرارة الشمس. يأتي الزبائن واحداً تلو الآخر، ليشكلوا حلقة دائرية حولهن، ويجلسون على "بنابر"، وهي مقاعد محلية دائرية الشكل تنسج بالحبال، فيما يختار آخرون الكراسي الخشبية. تضع السيدة طاولة كبيرة وترتب الأكواب وأباريق الشاي والكركديه والقهوة. غالباً ما تتنافس السيدات لجذب الزبائن، ويلجأ بعضهن إلى البخور ذي الرائحة الذكية.
تركت "حواء" منزلها في دارفور مصطحبة طفليها، بعدما قضى زوجها في الحرب. تقول لـ "العربي الجديد" إنها "لم تذق طعم الراحة منذ سنوات، لحظة وطأت قدماها الخرطوم". ليس أمامها خيار آخر. هي مصرة على تأمين الحاجيات الأساسية لطفليها، وخصوصاً العلم. اختارت بيع الشاي. تجلس على أحد الأرصفة، ويدها على قلبها خوفاً من مصادرة السلطات أدوات رزقها.
لحظة المداهمة، تشعر "حواء" بأبشع أنواع الذل والإهانة. وتلفت إلى أن "استعادة الأدوات، بعد أيام من الرجاء، غالباً ما لا تتم من دون دفع غرامة مالية".
مهنة المتاعب
تشير بعض الإحصائيات، غير الرسمية، التي أعدّها عدد من الخبراء إلى وجود حوالى 50 ألف امرأة يمتهن بيع الشاي، منهن 12 ألف أجنبية يعملن في العاصمة الخرطوم. واللافت أن 552 منهن لديهن شهادة جامعية، و73 تابعن دراسات عليا.
في المقابل، قالت الدراسة التي أصدرتها وزارة الرعاية الاجتماعية مؤخراً إن عدد النساء اللواتي اخترن هذه المهنة يقدرن بـ 13.724 امرأة، بينهن 1768 بائعة أجنبية وفدن من أثيوبيا وأريتريا، ويشكلن منافسة حقيقية للبائعات المحليات لقدرتهن على جذب الزبائن، وخصوصاً الشباب. وذكرت أن أعمار السودانيات العاملات في تلك المهنة تتراوح بين 30 و 40 عاماً، والأجنبيات بين 15 و20 عاماً.
في السياق، تقول الناشطة في مجال الدفاع حقوق المرأة سامية أرقاوي لـ "العربي الجديد" إن "الظروف المادية والمعيشية دفعت هؤلاء النساء إلى بيع الشاي لتوفير لقمة العيش لعائلتهن، وخصوصاً في ظل غياب مجانية التعليم والصحة التي يفترض أن توفرها الدولة". ولفتت إلى "الظروف القاسية التي تعملن فيها. يبدأن حركتهن قبل بزوغ الفجر لأن غالبيتهن يقطنّ عند أطراف الخرطوم حيث تنعدم المواصلات، ما يضطرهن للسير مشياً على الأقدام لمسافات طويلة، أو الاستعانة، أحياناً، بوسائل نقل بدائية للوصول إلى مقر عملهن".
وتتطرق أرقاوي إلى "الكشة"، أو حملات المداهمة التي تقوم بها السلطات المحلية في الولايات، وخصوصاً الخرطوم، بحق "سيدات الشاي"، متسائلة: "لماذا تُحارب الدولة نساء فضلن كسب لقمة عيشهن من عرقهن. يمضين نهارهن تحت لهيب الشمس لإنقاذ أنفسهن من بيوت الدعارة وغيرها". وتلفت إلى أهمية "دعمهن ومساعدتهن".
"بالكفتيرة ماسكة العيلة"
دفعت معاناةُ بائعات الشاي المتجولات العديد من الناشطين إلى إطلاق مبادرة "بالكفتيرة (الإناء الذي يُستعمل لغلي الشاي) ماسكة العيلة"، تضامناً معهن، حتى إن البعض ترك عمله الأصلي ليبيع الشاي لساعات عدة.
وفي السياق، تقول إحدى الناشطات المشاركات في الحملة تهاني عباس لـ "العربي الجديد"، إن "المبادرة تهدف إلى تقديم الدعم المعنوي لبائعات الشاي، والتأكيد على أهمية مهنتهن"، واصفة حملات المداهمة بـ "الظالمة". ولفتت بعد اختبارها بيع الشاي، إلى أن "السيدات يتعرضن لظلم آخر من الزبائن الذين ينظرن إليهن
نظرة دونية، كأنها إنسانة غير سوية". ورفضت ما أُشيع حول أن المبادرة وسيلة "لمغازلة الكاميرات".
السلطات تدافع
تلجأ السلطات المحلية في الخرطوم إلى تبرير المداهمات، وتقول إن ظاهرة "سيدات الشاي غير حضارية، ولديها آثار سلبية على البيئة بسبب المخلّفات التي تتركها بعد نهاية العمل". وأكدت أنها "ستسعى لإيجاد فرص عمل للمتعلمات منهن سواء في القطاع الحكومي أو الخاص". لكن ماذا عن غير المتعلمات؟
استطاعت "سيدات الشاي" الحلول مكان المقاهي القليلة في الخرطوم. حولهن، يجتمع السودانيون، يتسامرون، ويشربون الشاي.