الخاسرون في الانتخابات البلدية التونسية

14 مايو 2018

احتساب الأصوات في ناحية قرب العاصمة تونس (7/5/2018/فرانس برس)

+ الخط -
على الرغم من أهمية الحدث في ذاته، باعتباره جزءا من مسار سياسي، يخوضه الشعب التونسي، في اتجاه تكريس الوضع الديمقراطي وتطبيعه، فإن معطيات وتصورات أفرزتها الانتخابات البلدية لا ينبغي أن تغيب عن المراقب للشأن التونسي. حيث يمكن القول إن هناك عزوفا ملحوظا وحالة من اللامبالاة إزاء العملية السياسية انتشرت خصوصا في صفوف الجيل الجديد. وبمقارنة بسيطة بين نسب المشاركة في انتخابات 2011 التي بلغت 52% وانتخابات 2014 التي بلغت في دورتها الأولى 69% و64% في دورة الإعادة للرئاسية، فيما لم تتجاوز نسبة المشاركة في البلديات 33.7%. وتكشف الملامح الأولى للانتخابات البلدية التونسية عن تحولات لا بد من الانتباه إليها، أهمها حالة العزوف لدى الشارع التونسي عن المشاركة الانتخابية، بشكل يمكن تفسيره نزعة عقابية للطبقة السياسية برمّتها، فالأحزاب الكبرى، وإن ظلت في المقدمة، إلا أنها تراجعت، من حيث نسبة الأصوات التي حصلت عليها. وفي المقابل، لم تستفد قوى المعارضة الحزبية من المشهد، بل زاد وضعها سوءا.

وهذا يعني أننا أمام أحزاب فائزة من حيث المقاعد في البلديات، لكنها خسرت قسما مهما من ناخبيها. وتكفي ملاحظة أن حزب السلطة، نداء تونس، تراجع عدد الذين منحوه أصواتهم من نحو المليون و300 ألف صوت سنة 2014 لينحدر نحو أقل من 350 ألف صوت، وهو أمر نجد له نظيرا لدى حركة النهضة (من مليون صوت سنة 2014 إلى 450 ألفا في بلديات 2018) التي على الرغم من خسارة أصوات كتلة مهمة من أنصارها حافظت على صدارتها، بل وتفوّقت على حليفها وخصمها التقليدي، نداء تونس. في المقابل، عجزت أحزاب المعارضة عن الاستفادة من المشهد، وفتور التأييد لأحزاب الحكم، لتجد نفسها في أزمة حضور على المستوى الجماهيري لا تخطئه العين، فقد نال هذا التحالف اليساري الذي يضم سبع قوى حزبية ما نسبته 9.53% من الأصوات، وليحل في المرتبة الخامسة، وهو الذي حل ثالثا في الانتخابات التشريعية لسنة 2014. ما يعني حالة من الفشل في التواصل مع الجمهور، وعجز عن تقديم بدائل مقنعة، أو وجوه سياسية مؤثرة. وفي السياق نفسه، طرحت قوى حزبية وائتلافية أخرى نفسها أخيرا بديلا لقوى الحكم، من قبيل "مشروع تونس" و"الاتحاد المدني" الذي يضم سبعة أحزاب، لم تتمكن من إثبات حضورها الشعبي. وعلى الرغم من إمكاناتها المادية، وإنفاقها المبالغ فيه على العملية الانتخابية، لم تتجاوز النسبة التي حصلت عليها 1,44% لـ "مشروع تونس" و1,77% للاتحاد المدني. وهي نتائج تكشف عن فشل معلن للمقاربة السياسية التي تنطلق منها هذه القوى، وحاجتها السريعة والملحة لمراجعة مواقفها وبرامجها (إن تملك برامج بالفعل)، فالشارع التونسي الذي يتعامل ببراغماتية واضحة مع العمل السياسي لم تعد تغريه شعارات الإيديولوجيا والتحشيد تحت يافطة الدفاع عن المشروع المدني والحداثي المُفترض، وإنما أثبت وعيا واضحا من حيث رفضه طبقة سياسية تقتات على شعاراتٍ عفا عليها الزمن. وفي الوقت نفسه، تعجز عن تقديم بدائل أو التقدم نحو إيجاد حلول لمشكلات ملحة، مثل البطالة وغلاء المعيشة والظروف الاقتصادية المتدهورة.
وعلى الرغم من أن الانتخابات البلدية لا تطرح حلولا للمشكلات الكبرى على المستوى الوطني، بقدر ارتباطها بالشأن المحلي، فإن الجمهور العام أصبح لا يثق في جزء كبير من الرموز السياسية، وهو الذي خبِر بعضهم في مناصب الوزارة، أو ناشطين مع أحزاب أخرى، ولم يسمع منهم سوى الشعارات الفضفاضة والدعايات الفاقدة للمعنى. ويمكن القول إن الحزب الوحيد الذي حقق تقدما واضحا هو حزب التيار الديمقراطي الذي حصل على ما نسبته
4,19% من الأصوات، وليصبح الحزب الثالث من حيث الأهمية الانتخابية بعد "النهضة" و"نداء تونس". وليحقق تقدما على حساب الجبهة الشعبية وباقي القوى السياسية. ويمكن تفسير هذا التقدم الانتخابي بما يطرحه هذا الحزب من شعاراتٍ، تتعلق بالشفافية والمحاسبة المالية ومحاربة الفساد. ولأنه، من ناحية ثانية، تحول إلى وريث فعلي لحزب حراك تونس الذي يتزعمه المنصف المرزوقي الذي فشل في تحقيق حضور ملحوظ في الانتخابات البلدية، وليكون من الخاسرين الكبار في المحطة الانتخابية الحالية.
بقي أن يلاحظ أن النسبة الأكبر من الأصوات ذهبت الى القوائم المستقلة، ما يعود إلى عاملين: عددها الكبير (897 قائمة على 350 بلدية)، واستفادتها من عزوف المواطن عن القوائم الحزبية، وهو ما مكنها من الحصول مجتمعةً على ما نسبته 32,27% من الأصوات (الأولى من حيث الأصوات)، ولتحل ثالثة من حيث عدد المقاعد. وما ينبغي ملاحظته أن المرشحين المستقلين لا يشكلون قوة متماسكة تحمل هوية سياسية واحدة، بقدر ما تنتمي إلى اتجاهات شتى، ومشارب مختلفة من حيث انتماؤها إلى خلفيات عشائرية أو محلية. ما يعني أنها لن تشكل فارقا مُهمّا في أي انتخابات نيابية مقبلة، لكنها، في الوقت نفسه، تمثل مؤشرا واضحا على رغبة الناخب التونسي في الخروج من عباءة الأحزاب، والميل إلى التصويت خارج المعتاد، كما أن التعبئة الإيديولوجية والدعايات السياسية لا تؤثر بوضوح في الخيارات الانتخابية على المستوى المحلي، وهي نتائج تدعو الطبقة السياسية بمجملها إلى مراجعة حساباتها قبل فوات الأوان.
B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.