الحُبّ والعشرينيات: عن رباعية المشاعر التي ترافقنا

14 فبراير 2015
رباعيّة الحبّ (لونا صفوان)
+ الخط -
يُباغتنا شهر شباط/ فبراير كلّ عام بأيّامه التي تقلّ عدداً عن الشهور الأخرى، وكأنّ ذلك ليس كافياً للشهر البارد الذي تترافق مع شتائه مناسبة دافئة أُخرى وهي عيد الحبّ أو "فالنتاين".

أمّا في لبنان، فباتت المشاعر مختلطة بخصوص ذلك النهار تحديداً بسبب اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري صبيحة عيد الحب في 14/2/2005، اغتيالٌ لم يُغيّر ببساطة رمزية ذلك النهار، بل بدّل مُجريات الأحداث السياسية والاجتماعية وقلبها رأساً على عقب في بيروت.

أمّا لمَن لا يعرف قصّة عيد الحبّ، قبل الغوص بموقفي المتحيّز منه، فتتعدد القصص، واحدةٌ منها بطلها فالنتاين أو فلنتينوس الذي كان كاهناً في روما خلال القرن الثالث ميلادي في عهد الإمبراطور كلاوديوس الوثني الذي اشتهر باضطهاد المسيحيين لأنهم لم يكونوا من عَبَدة الأوثان في عهده. بدأت الاضطرابات في عهد الإمبراطور كلاوديوس في الإمبراطورية الرومانية، فما كان منه إلا أن قرر تحضير وتدريب جيشٍ قويّ لخوض النزاعات. لكن دعوته لم تلقَ إقبالاً شديداً بسبب تردد الشبان، فالروماني المتزوج لم يرغب بالابتعاد عن عائلته والمخاطرة، أما الأعزب، فرفض التفريط بحبه والمغادرة للمشاركة بحربٍ قد تطول لسنوات.

فما كان من الإمبراطور إلا أن أصدر قراراً يمنع الزواج في الإمبراطورية وأمر بعدها بفسخ جميع الخطوبات القائمة، ما أجبر الشبان على الاستسلام والذهاب للمشاركة في الحرب رغم الأخطار التي قد تواجههم وتحرمهم من العودة إلى ديارهم. علم الكاهن فالنتاين بقرار الإمبراطور فبادر إلى دعوة المسيحيين والوثنيين الراغبين بالزواج إلى كنيسته سراً لتزويجهم. وكعقابٍ للكاهن، أمر الإمبراطور بسجنه وأصدر لاحقاً حكماً قضى بإعدامه بسبب عدم امتناعه عن نشر الإيمان بالله الواحد حتى خلال فترة احتجازه. وبعدها بسنوات عديدة أعلنته الكنيسة قديساً.

ولكنني رغم تلك القصة المؤلمة ببساطة: أكره عيد الحب، ولو أنني معجبة سرياً بقصص الحب، بكتب جين أوستن عن رجال خيبوا الآمال، وأعادوا إحيائها، عن الحب الحقيقي والنزوات وكلّ المغامرات التي تترافق معه. ولو أنني عرفت الحب بأشكاله الثلاثة، حبّ الطفولة، حبّ المراهقة، وحبّ العشرينيات. أمّا الحب الرابع، فأنا على يقين بأنه سيكون الحب الأخير، وستكون نهايته إمّا سعيدة، أبدية، أو نهاية.. نقطة.

لم يُعجبني عيد الحبّ منذ طفولتي، وذلك بعد أن راقبت والديّ يغرمان ببعضهما يومياً، يرسل والدي للماما باقة ورد إلى العمل في أول الربيع، وفي ذكرى زواجهم، ويوم عيد مولدها، ويتجاهلان بالتراضي عيد الحب لأن الحب لا يجب أن يكون منوطاً بيوم واحد، الحب الحقيقي يتقاسمه الحبيبين على مدى عام كامل وأعوام، كما يقولان.

تسليط الضوء على عيد الحب بدأ في سنوات مراهقتي الأولى، كنا في الثالثة أو الرابعة عشرة من العمر نجلس في ملعب المدرسة ونستغلّ دقائق الفسحة المعدودة للدردشة: تغلغلت في داخلي أحاديث الفتيات عن شبان ينتظرونهنّ أمام بوابات المدرسة، وعن ورود وعلب تزيّنها القلوب. عادت بي ذاكرتي يومها إلى الحب الاول، حب الطفولة: لا أذكر اسمه، ولكن ما أذكره جيداً هو عيناه العسليتان، كنا نبلغ من العمر 8 سنوات لا أكثر. وصبيحة يومٍ صيفيّ مشمس، كنا نلعب لعبة "بيت بيوت" الشهيرة، جلسنا خلف ستارة غرفة النوم، اقترب مني.. وقبلني. قبلني قبلةً صغيرة واختفى. لم نعد نلعب سوية، لم يعاود زيارة أقربائه خلال وجودي، هرب، حبي الأول هرب! وانتهت مع هروبه سعادتي بالقبلة الأولى.

وخلال استكمال صديقاتي التخطيط للمزيد من الالوان والهدايا في الفسحة نفسها، كنت أحلم بشخص واحد. شابٌ كانت تلتقي عيناي بعينيه خلال مروري بباص المدرسة من منطقة الطريق الجديدة في بيروت يومياً، في تمام الساعة السادسة وخمسون دقيقة. يتوقف الباص ليُقلّ طالبين، يمر مع صديقه، ينظر إليّ لثوان قليلة، يكمل طريقه ويبتسم. استمريْتُ يومها بتجاهل دردشة الفتيات وأكملتُ الحُلم: عيناه الملونتان، وشعره المهندم بطريقة عصرية جميلة، وابتسامته جعلاني من معجباته. لم أعرف اسمه يوماً، والتقرّب منه كان مستحيلاً، بأي حجة أغادر باص المدرسة؟ استمرت "علاقتنا" لأشهر قبل أن تنتهي تلك السنة الدراسية ويختفي. قيل لي إنه انتقل الى مدرسة ثانوية أخرى ولم يعد يسلك الطريق نفسه.

أما اليوم، فحديثنا يتمحور حول حب العشرينيات، هو ذلك الحب الذي يعصف بنا بقوة، فيدفعنا لتعديل أحلامنا، وترميم مشاعرنا، والايمان بأن لا مستحيل في الحياة. هو حبّ يشتتنا عن أهدافنا، قد يؤذينا وقد يُسعدُنا ولكنه بالتأكيد يُعلّمنا الكثير، يعلّمنا بأن الحب ليس كل شيء، تترافق معه مسؤوليات أعمق، الثقة، المشاركة، الاهتمام، والتضحية بالتساوي. حب العشرينيات ليس الحب المثالي ولكنه جميل، ذلك أن العشرينيات من أصعب مراحل حياتنا كنساء. لا نعرف طريقاً مؤكداً، أحلامنا عرضة لعواصف الشتاء ولهيب الصيف. لكن ذلك الحب يُضحي اليقين الوحيد في حياتنا الغير مؤكدة إلى حين نهايته، التي غالباً ما تكون جارحة، حزينة وصعبة.

بالعودة الى عيد الحب، المرة الوحيدة التي استسلمت خلالها لممارسة عادات ذلك اليوم كانت في السادسة عشرة من عمري، يوم توافقتُ مع الشاب الذي كنت أواعده على الاحتفال وتبادل الهدايا شرط أن يكون ذلك بطريقة فكاهية مضحكة. فكانت من نصيبي قصيدةٌ أطلق عليها عنوان "أنتي حفيظة قلبي"، وبات اسمي "حفيظة يوم عيد الحب". أمّا الحب الرابع والذي أؤمن بأنه سيكون الاخير، لن يحدث في العشرينيات، سيباغتني بعد سنوات عديدة.

سيكون جديداً ومختلفاً ومنظماً، قد يدوم ويتكلّل بالزواج الذي تحلم به معظم الفتيات، الزواج الذي أهرب منه باستمرار، أو كغيره من العلاقات، سينتهي. لا شيء مؤكد. أما اليوم، فسأحاول قدر المستطاع احترام رغبة عددٍ من صديقاتي المقربات بالاحتفال بيوم عيد الحب مع أحبائهن، وسأروي لهنّ قصة حفيظة، وقبلتها الاولى، وعلاقاتها، وسأترك لهنّ أحلامهنّ الوردية الجميلة وأراقب سعادتهُنّ. كل عيد حبّ وأنتنّ بخَيْر.
دلالات
المساهمون