الحياة في سبيل الوطن

30 ديسمبر 2015

لوحة محمد جحا

+ الخط -
وهكذا يصبح موتنا المستمر كأس شاينا الصباحي، أو إغلاقة باب بيتنا، حين نذهب إلى العمل، أو تحية صباح باردة للجار، لا إحساس فيه، لا سؤال معه، لا معنى له. هذا ليس غريباً، هذا اسمه الحياة، نسمع في سيارة الأجرة عن شهيدٍ يسقط برصاص محتل، فنعطي اللحظة غصة ألم صغيرة وغير منطوقة، وأسفَ خاسر، ثم نواصل الحديث مع السائق عن العاصفة الثلجية الآتية، أو عن غلاء الطماطم، أو عن الجامعة المناسبة لأولادنا، أو عن زحام حاجز قلنديا. هذا ليس تخلياً أو خيانة أو جبناً. هذا شيء طبيعى اسمه الحياة، لا أدين هنا ولا أعترض، تلك طبيعة الحياة، حين يصير الموت عادةً، مثل عادة الذهاب إلى العمل، فيموت الاستغراب ويبرد السؤال، وتخف الإثارة. لا أحتج، لا أتذمر، بل أصف عادية الحياة الفلسطينية ومفارقاتها المتوقعة.
ليس المطلوب من الشعب الفلسطيني إقامة مناحات يومية، ليس ضرورةً أن يتخذ من النواح وسيلة حزن أو تذمر أو جلد ذات. في كل شعوب الأرض ثمة استعداد للتعب، تتعب الشعوب، تتكاسل، تخاف، تمرض، لكنها سرعان ما تسترجع عافيتها وقيامتها، فتقدم أغلى ما لديها، الحياة في سبيل شيء عظيم اسمه الكرامة؟ ليس الموت في سبيل الوطن وحده الخيار الوحيد لمقاومة الاحتلال، ثمّة خيار آخر هو الحياة في سبيل الوطن. مجرد السعال في فلسطين شكل من النضال، نحن موجودون على الأرض بعناد، بأمراضنا موجودون وبأغانينا. مشكلة الاحتلال الكبرى وجودنا على الأرض، طبيعيين جداً نذهب إلى العمل، ونشاهد أفلاماً أميركية، ونقرأ روايات صينية، ونتقاتل على نساء جميلات، ننجب الأطفال، ونقيم مهرجانات رقص عالمية، ونشحّط بالسيارات في منتصف الليل. لكن حتى الذين لم يقصدوا الموت في سبيل الله والوطن معرضون للموت، حتى الذين اختاروا الحياة في سبيل الوطن محكوم عليهم بالموت، يلاحق الاحتلال كل خياراتنا، لا يميز بين خياروآخر، فالفلسطيني يقتل، حتى وهو يعلم في مدرسته، أو يزرع في حقله، أو يضحك مع أصحابه في مقهى، أو يمارس الحب مع زوجته.
ماهر حسني الجابي الخمسيني الذي كان يمر من حاجز حوارة، ببساطةٍ مرعبةٍ، أطلق جنود الاحتلال النار عليه وقتلوه، لا لسبب سوى أنه انحرف بسيارته قليلاً نحو الرصيف، ارتباكا أو خوفاً. كان للخمسيني الفلسطيني ألف سبب للبقاء على قيد الحياة، ابنته حامل في شهرها الأخير، وينتظر حفيدته بفارغ الصبر. مات ماهر من دون سبب، قتله حظه العاثر. هو من شهداء فلسطين العابرين الذين لم يذهبوا إلى الحاجز للطعن أو الموت في سبيل الله أو الوطن. كان فقط ذاهبا إلى عمله، وأظن هذا الذهاب هو أيضا أنبل أنواع الموت وأجملها في سبيل الوطن والله. هذا ما حدث أيضاً مع مهدية حماد من قرية سلواد رام الله. كانت تعود بسيارتها إلى البيت، وعلى حاجز مدخل سلواد، قرّر جنود العتمة والكراهية أن مهدية كانت مسرعةً، وأنها تحاول دهسهم، فأطلقوا عليها رصاص الموت وقتلوها. تركت مهدية أطفالاً وزوجاً، لا يصدق ما حدث، كان لديها ألف سبب للحياة، كان لديها رضيعها. المعلمة ثروت عشراوي أربعينية قادت سيارتها باتجاه بيتها في الخليل، كمن لها الجنود القتلة الجاهزون خلف خوفهم، وأقنعوا أنفسهم أن سرعة سيارتها كافية لتهمة دهسهم، فدهسوا حياتها، وكسروا قلوب طلباتها وبناتها. ماتت ثروت التي كان لديها ألف سبب لحياةٍ عامرةٍ بالنجاح والأولاد والمدارس.
شهداء عابرون لم يذهبوا قاصدين الموت، ومئات غيرهم قتلهم الاحتلال بشكل عشوائي، لأنهم وجدوا في المكان الخطأ، أو لأن الاحتلال ظنهم قادمين لقتله، أو ربما، وهذا أقرب للحقيقة، لأن الاحتلال يريد قتل كل فلسطيني على الأرض.
4855FC54-64E3-49EB-8077-3C1D01132804
زياد خداش

كاتب قصة فلسطيني، مواليد القدس 1964، يقيم في رام الله، يعمل معلما للكتابة الإبداعية، له عدد من المجموعات القصصية.