27 سبتمبر 2018
الحل السوري في موسكو لا جنيف
كما جولات التفاوض غير المباشرة السابقة بين وفدي النظام والمعارضة السوريين، فإن محادثات جنيف 8 لا تبدو مختلفة عن سابقاتها التي ظهر فيها أن الثابت الوحيد هو استمرار بشار الجعفري ممثلاً للنظام، على الرغم من التغيّر الكبير في وفد المعارضة الذي خضع لضغوط وتعديلات أدت، أخيرا، إلى تمثيل كل المنصات، بما في ذلك منصة موسكو، وهو الأمر الذي كان يفضي إلى خروجها بلا نتائج.
ما يبرر به وفد النظام موقفه المعيق أن وفد المعارضة جاء بشروط مسبقة، وردت في بيان الرياض 2، وهو هنا يشير إلى الفقرة التي تؤكد على رحيل بشار الأسد مع بداية المرحلة الانتقالية. وكانت منصة موسكو قد وثقت الاعتراض نفسه، الأمر الذي جعلها تشارك مراقبا في اجتماع المعارضة في الرياض، على الرغم من أنها شاركت في وفد المعارضة، بعد تبرير ذلك بالقول إن تأكيد المبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، على أنه لا شروط مسبقة في جولة التفاوض هذه يعني شطب الفقرة من بيان الرياض2، ولا شك في أن ذلك تبرير سطحي، لكنه دعّم موقف وفد النظام الذي انسحب اعتماداً على هذه المسألة.
منصة موسكو كما وفد النظام يؤكدان على الانطلاق فقط من القرار 2254 الصادر عن الأمم المتحدة، ويرفض وفد النظام أي تطرُّقٍ لمسألة الرئاسة. لكن القرار الأممي يستند إلى بيان جنيف1، وإلى قرارات أخرى استندت بدورها إلى هذا البيان. بمعنى أن بيان جنيف1 ما زال أساس التفاوض، وأن كل القرارات الأخرى جاءت لاستكمال الخطوات العملية التي توصل إلى تحقيق ما ورد فيه. وإذا كان لم يرد ذكر في البيان لـ "مقام الرئاسة" فقد ورد فيه، وبشكل
واضح، تشكيل هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحيات التنفيذية، ما يعني أن هيئة حكم تتشكل عبر التفاوض هي التي ستقود البلاد في المرحلة الانتقالية، وليس بشار الأسد. وهيئة حكم لا تعني حكومة، وهي تتشكل للقطع مع النظام القائم، والتهيئة لتشكيل نظام جديد متوافق عليه بين أطراف متصارعة، وتتشكل من هذه الأطراف بتوافق بينها. وفي هذه الحالة، ينتهي دور الرئيس الحالي، فيسلّم سلطاته لهذه الهيئة، ما دام هو الذي يمتلك كل الصلاحيات التنفيذية، حسب الدستور المقرّر سنة 1973، والذي جرى تعديله سنة 2012 عبر "استفتاء" لم يشارك فيه أكثر من 10% ممن يحق لهم التصويت. وفي هذه الحالة، تحكم هيئة الحكم وفق أحكام دستورية، يجري التوافق عليها، تخصّ المرحلة الانتقالية.
يعني ذلك كله أن جوهر عملية التفاوض هو "هيئة الحكم"، وغير ذلك هو تفاصيل تكميلية لتنفيذها مهامها. ولا شك في أن نص بيان جنيف1، والقرار الأممي 2254 وغيرها من القرارات ذات الصلة تشمل خطوات عملية عديدة تحظى بموافقة دولية، ومن وفد المعارضة من دون أن تلقى موافقة النظام، كما بيان جنيف1 الذي يرفضه بتاتاً. بهذا ليس مستغربا أن تفشل كل جلسات التفاوض، فالنظام يريد وفداً من المعارضة، يقبل المشاركة في "حكومة وحدة وطنية"، وهو لا يعتقد أن صراعاً كبيراً نشأ في سورية يفرض الوصول إلى "حل وسط"، بل يرى أن "مجموعات إرهابية" ودولا إقليمية "افتعلت" مشكلة في سورية ضده، وأن الوضع بات يقتضي أن تتراجع هذه القوى والدول عن تدخلاتها و"حربها"، على أن تُقبل ضمن حكومة يشكّلها هو. بمعنى أنه يريد إنهاء الصراع بدمج المعارضة في بنية السلطة فقط.
هذا يعني اختلافا كبيراً في النظر لما جرى ويجري، وأن تناقضاً يقوم بين الأطراف المتفاوضة حول ذلك. فالتفاوض يجري بين طرفين على ضوء "حربٍ أهلية"، أو تمرّد أو ثورة، حين تكون هناك حاجة إلى حل وسط، حيث يقدم كل طرف تنازلات لمصلحة الطرف الآخر من أجل أن يتحقق الحل، أو يستمر الصراع إلى أن يُحسم بطريقة ما. ولا شك في أن ما جرى في سورية ثورة طرحت إسقاط النظام من دون أن تستطيع (إلى الآن) تحقيق ذلك. وحيث دخل الصراع في استعصاء (أشار إليه نائب الرئيس السوري فاروق الشرع منذ نهاية سنة 2012)، وجرت تدخلات متعدّدة ليتحوّل الصراع إقليميا دوليا، فإن هدف التفاوض هو إنهاء الصراع، بما يحقق بعضاً من مطالب الثورة التي تطرحها المعارضة، والتي باتت تتحدَّد في إزاحة بشار الأسد، على الرغم أن ذلك لا يحلّ المشكلات التي صنعت الثورة، من دون أن
يعني ذلك "إسقاط النظام"، حيث ستبقى بنية الدولة (مع تعديل شكلي في أجهزتها الأمنية)، وبالتالي لم يعد التفاوض يتعلق بإسقاط النظام، بل بإزاحة الرئيس وتعديلات في بنية الدولة.
وكان صاحب هذه السطور قد أشار إلى رواية النظام التي تقوم على اعتبار ما جرى من عمل مجموعات إرهابية، ومؤامرة، وتدخل إقليمي. وهو هنا لا يضع شرعيته محلّ تساؤل، بل ينطلق من أن هناك اعتداء عليه، وأن "بعضاً من السوريين" (وهم ملايين كما أشار بشار الأسد مرة) قد مارس الإرهاب. وهذا منظور يقرُّ أصلاً بشرعية ما للمعارضة التي يتفاوض معها، ولا يعترف بأنها تطرح مطالب، بل يريدها أن تذعن لسيطرته من جديد، فهو ينظر إليها باعتبارها متمردين يمكن العفو عنهم شرط قبولهم الحل الذي يطرحه، وهو هنا المشاركة في "حكومة وحدة وطنية" فقط، ربما مع تعديلات شكلية في الدستور والصلاحيات.
لهذا، فإن أساس التفاوض ليس قائماً، بل الأمر يتعلق بـ "تقطيع الوقت" تحت مسمى التفاوض. ولا شك في أن الدعم الروسي للنظام هو الذي يؤسس لهذا المأزق، لأن روسيا التي تضغط من أجل تغيير مطالب المعارضة، وفرض قبولها بمنظور النظام، لا تفرض على النظام سوى التصرّف كما يريد، على الرغم من أنها باتت صاحبة القرار. وهذا يؤشر إلى ما تريد روسيا التي تسعى إلى فرض تصورها المطابق لتصور النظام، ولهذا فتحت مسار أستانة، وها هي تفتح مسار سوتشي، وتريد في الأخير ترويض المعارضة، أو بعض أطرافها، أو فرْض معارضة مزيفة تقبل باستمرار وجود رئيس النظام عبر إشراكها في وفد المعارضة، لكي تصبح هي المعارضة بعدئذ.
إذن، الخلاف الذي يعقد التفاوض ليس على تفاصيل، بل هو خلاف على أسس فهم طبيعة الصراع، الأمر الذي يفرض أن يسعى "الأقوى" (وهو الآن روسيا) إلى فرض شروطه وصيغته. ما يمكن أن يعدّل في ذلك هو المنظور الأميركي الذي ما زال لا يسعى إلى نهاية للصراع في سورية، فلا يضغط على روسيا للتوصل إلى حل مشترك. وما يهم أميركا أكثر هو وجود أدوات إيران في سورية، وربما ليس من خلاف هنا بين الطرفين. بالتالي، لا بد من مراقبة المسار الروسي، على الرغم من تصريح أميركا ودول أخرى أن جنيف هو المسار الشرعي الوحيد للحل في سورية. ربما فقط أن الإجهاد الروسي هو الذي سيفرض حلاً يبدأ من "هيئة حكم انتقالية"، فهذا الأمر وحده يمكن أن يهدئ من الصراع، ويسمح بـ "لملمة" الوضع. العقدة ليست في دمشق بل في موسكو، عاصمة الدولة التي باتت تحتلّ سورية.
ما يبرر به وفد النظام موقفه المعيق أن وفد المعارضة جاء بشروط مسبقة، وردت في بيان الرياض 2، وهو هنا يشير إلى الفقرة التي تؤكد على رحيل بشار الأسد مع بداية المرحلة الانتقالية. وكانت منصة موسكو قد وثقت الاعتراض نفسه، الأمر الذي جعلها تشارك مراقبا في اجتماع المعارضة في الرياض، على الرغم من أنها شاركت في وفد المعارضة، بعد تبرير ذلك بالقول إن تأكيد المبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، على أنه لا شروط مسبقة في جولة التفاوض هذه يعني شطب الفقرة من بيان الرياض2، ولا شك في أن ذلك تبرير سطحي، لكنه دعّم موقف وفد النظام الذي انسحب اعتماداً على هذه المسألة.
منصة موسكو كما وفد النظام يؤكدان على الانطلاق فقط من القرار 2254 الصادر عن الأمم المتحدة، ويرفض وفد النظام أي تطرُّقٍ لمسألة الرئاسة. لكن القرار الأممي يستند إلى بيان جنيف1، وإلى قرارات أخرى استندت بدورها إلى هذا البيان. بمعنى أن بيان جنيف1 ما زال أساس التفاوض، وأن كل القرارات الأخرى جاءت لاستكمال الخطوات العملية التي توصل إلى تحقيق ما ورد فيه. وإذا كان لم يرد ذكر في البيان لـ "مقام الرئاسة" فقد ورد فيه، وبشكل
يعني ذلك كله أن جوهر عملية التفاوض هو "هيئة الحكم"، وغير ذلك هو تفاصيل تكميلية لتنفيذها مهامها. ولا شك في أن نص بيان جنيف1، والقرار الأممي 2254 وغيرها من القرارات ذات الصلة تشمل خطوات عملية عديدة تحظى بموافقة دولية، ومن وفد المعارضة من دون أن تلقى موافقة النظام، كما بيان جنيف1 الذي يرفضه بتاتاً. بهذا ليس مستغربا أن تفشل كل جلسات التفاوض، فالنظام يريد وفداً من المعارضة، يقبل المشاركة في "حكومة وحدة وطنية"، وهو لا يعتقد أن صراعاً كبيراً نشأ في سورية يفرض الوصول إلى "حل وسط"، بل يرى أن "مجموعات إرهابية" ودولا إقليمية "افتعلت" مشكلة في سورية ضده، وأن الوضع بات يقتضي أن تتراجع هذه القوى والدول عن تدخلاتها و"حربها"، على أن تُقبل ضمن حكومة يشكّلها هو. بمعنى أنه يريد إنهاء الصراع بدمج المعارضة في بنية السلطة فقط.
هذا يعني اختلافا كبيراً في النظر لما جرى ويجري، وأن تناقضاً يقوم بين الأطراف المتفاوضة حول ذلك. فالتفاوض يجري بين طرفين على ضوء "حربٍ أهلية"، أو تمرّد أو ثورة، حين تكون هناك حاجة إلى حل وسط، حيث يقدم كل طرف تنازلات لمصلحة الطرف الآخر من أجل أن يتحقق الحل، أو يستمر الصراع إلى أن يُحسم بطريقة ما. ولا شك في أن ما جرى في سورية ثورة طرحت إسقاط النظام من دون أن تستطيع (إلى الآن) تحقيق ذلك. وحيث دخل الصراع في استعصاء (أشار إليه نائب الرئيس السوري فاروق الشرع منذ نهاية سنة 2012)، وجرت تدخلات متعدّدة ليتحوّل الصراع إقليميا دوليا، فإن هدف التفاوض هو إنهاء الصراع، بما يحقق بعضاً من مطالب الثورة التي تطرحها المعارضة، والتي باتت تتحدَّد في إزاحة بشار الأسد، على الرغم أن ذلك لا يحلّ المشكلات التي صنعت الثورة، من دون أن
وكان صاحب هذه السطور قد أشار إلى رواية النظام التي تقوم على اعتبار ما جرى من عمل مجموعات إرهابية، ومؤامرة، وتدخل إقليمي. وهو هنا لا يضع شرعيته محلّ تساؤل، بل ينطلق من أن هناك اعتداء عليه، وأن "بعضاً من السوريين" (وهم ملايين كما أشار بشار الأسد مرة) قد مارس الإرهاب. وهذا منظور يقرُّ أصلاً بشرعية ما للمعارضة التي يتفاوض معها، ولا يعترف بأنها تطرح مطالب، بل يريدها أن تذعن لسيطرته من جديد، فهو ينظر إليها باعتبارها متمردين يمكن العفو عنهم شرط قبولهم الحل الذي يطرحه، وهو هنا المشاركة في "حكومة وحدة وطنية" فقط، ربما مع تعديلات شكلية في الدستور والصلاحيات.
لهذا، فإن أساس التفاوض ليس قائماً، بل الأمر يتعلق بـ "تقطيع الوقت" تحت مسمى التفاوض. ولا شك في أن الدعم الروسي للنظام هو الذي يؤسس لهذا المأزق، لأن روسيا التي تضغط من أجل تغيير مطالب المعارضة، وفرض قبولها بمنظور النظام، لا تفرض على النظام سوى التصرّف كما يريد، على الرغم من أنها باتت صاحبة القرار. وهذا يؤشر إلى ما تريد روسيا التي تسعى إلى فرض تصورها المطابق لتصور النظام، ولهذا فتحت مسار أستانة، وها هي تفتح مسار سوتشي، وتريد في الأخير ترويض المعارضة، أو بعض أطرافها، أو فرْض معارضة مزيفة تقبل باستمرار وجود رئيس النظام عبر إشراكها في وفد المعارضة، لكي تصبح هي المعارضة بعدئذ.
إذن، الخلاف الذي يعقد التفاوض ليس على تفاصيل، بل هو خلاف على أسس فهم طبيعة الصراع، الأمر الذي يفرض أن يسعى "الأقوى" (وهو الآن روسيا) إلى فرض شروطه وصيغته. ما يمكن أن يعدّل في ذلك هو المنظور الأميركي الذي ما زال لا يسعى إلى نهاية للصراع في سورية، فلا يضغط على روسيا للتوصل إلى حل مشترك. وما يهم أميركا أكثر هو وجود أدوات إيران في سورية، وربما ليس من خلاف هنا بين الطرفين. بالتالي، لا بد من مراقبة المسار الروسي، على الرغم من تصريح أميركا ودول أخرى أن جنيف هو المسار الشرعي الوحيد للحل في سورية. ربما فقط أن الإجهاد الروسي هو الذي سيفرض حلاً يبدأ من "هيئة حكم انتقالية"، فهذا الأمر وحده يمكن أن يهدئ من الصراع، ويسمح بـ "لملمة" الوضع. العقدة ليست في دمشق بل في موسكو، عاصمة الدولة التي باتت تحتلّ سورية.