الحلم والمجزرة

14 ابريل 2015
+ الخط -
في طفولتنا، لم تكن ذكرى الجلاء تعني لنا. عبارة "جلاء آخر جندي مستعمر عن أرضنا عام 1946" يحفظها السوري كما يحفظ صورة الأب القائد. مع اقتراب ذكرى الجلاء أتذكر وأنا لاجئاً في فرنسا مجازر النظام قبل أربعة أعوام، لقد تم إجلاؤنا نحن أيضاً، وأصبحنا بشراً يتمتعون بحقوق الإقامة والتأمين الصحي على أرض المستعمر الفرنسي الغاشم.
الأمن يصطف على جانبي الشارع. الباص قد توقف في أول شارع الدبلان، علينا أن نصل إلى حي الخالدية سيراً. سبقَ أن حاولت إقناع أمي بعدم المجيء، لكنها أصرت، كانت حمص تشهد تشييع ضحايا يوم أمس.
وصلنا إلى منتصف شارع أبو العوف، كل ما أرجوه أن تختفي أمي، على يميننا شارع فرعي يظهر منه المعتصمون، كانوا بحدود الألفين، لم أنتبه إلى أنني أتنفس حتى وصلنا منطقة الأمان، الخالية من الأمن، مقابل جامع خالد بن الوليد، حيث تجمع عشرات الشبان. المؤذن ينادي بأن الاعتصام في ساحة الساعة.

شوارع الخالدية شبه فارغة، خمسة رجال يشربون الشاي على رصيف أمام منزلنا، قال أحدهم إن المشيعين خرجوا من مقبرة "تل النصر"، لكنهم لم يتفرقوا، بل توجهوا إلى الساحة. وصل أحد أقاربي، يد أمي ترتجف وهي تساعدنا في ربط الأشياء إلى الدرَّاجة، كانت مرتدية ثوب صلاتها، وقد انتهت توَّاً من سقاية الورد. كل منا يمسك الدراجة من طَرَف، بحثنا عن طريق آمن للوصول إلى الاعتصام، قريبي موظف في الحكومة، وفي حال تصويره من قبل الأمن سيُفصل من وظيفته، هذا ما أخبرني به عند شارع "ابن زيدون" فوجئنا به مليئاً بباصات الأمن، لكن لم يعد بإمكاننا التراجع، هكذا أكملنا سيرنا وقد تركَنا العناصر نمرُّ بسلام.

كان الناس قد وصلوا إلى منتصف شارع "شكري القوَّتلي"، وصولاً إلى بناء "السرايا"، في مقدمتهم حاجز بشري من النشطاء، كانوا يفتشون الداخلين للتأكد من أنهم لا يحملون أية قطعة سلاح. كان "محمود الدالاتي" أحد شيوخ حمص يتحدث عبر الميكروفون، "إخوانكم من السلمية والحولة بكرا الصبح رح يجوا عالاعتصام"، ضج الحشد بالفرح، "حرية حرية.. إسلام ومسيحيَّة"، تساءل قريبي عن وجود الشيوعيين، وقتها، كانت اتهامات النظام للثوار بأنهم إسلاميون ومسلحون تجعلهم يبالغون بإظهار سلميتهم وتعدديتهم، أخذ أحدهم الميكرفون ورحب بوجود مجموعة من العلويين القادمين من حي "الزهراء"، كانوا ملثمين، علمتُ فيما بعد أن معظمهم من تجمُّع "نبض للشباب المدني السوري"، لم يكن شعار (الشعب يريد إسقاط النظام) شائعاً في حمص، لكن الشيخ أعلنه بعد أن ترحَّم على شهداء البارحة.

وصلتْ أربع سيارات "كميون" ممتلئة بالشبان، عرفتُ من هتافاتهم أنهم جاءوا من حي "باب السباع". خرجتُ من الاعتصام عائداً إلى المنزل لأرتاح، من أمام "السوق المسقوف"، شاهدتُ بجوار مبنى "الهجرة والجوازات" رشاش 500 مثبتاً فوق أكياس من الرمل وموجهاً نحو المعتصمين.
لا يتفق اثنان من السوريين على ما حدث في هذا اليوم التاريخي، كل واحد يروي قصة الاعتصام بطريقة مختلفة، هكذا بقي غامضاً ككثير من الأحداث في الثورة، إذ لا يوجد توثيق موضوعي ومحايد، الرجال ما زالوا على الرصيف أمام منزلنا، تركتهم ودخلت إلى المنزل، كانت ركبتاي تؤلماني من طول الوقوف.

قال أحد الجيران، وقد كان جندياً في "حرب تشرين" 1973، إنه لم يسمع رصاصاً بهذه القوة والكثافة من قبل، ماذا سنفعل؟، الساعة الثالثة صباحاً، مئة ألف من العزَّل في الساحة، كل هذا الرصاص يُطلق عليهم؟، أخي الأصغر ينظر هلِعاً من الشباك، وبعض الرجال متسمرون أمام منازلهم، إذا أخرج أحدُنَا رأسه من الحارة باتجاه "طريق حماه" قد يُصاب، وصل شابٌّ من جهة الجامع، "الناس ماتت، الناس اندبحت، فزعة يا شباب"، ومضى، حاول أحدهم التقدم، ركض أخوه وراءه ومنعه، حاولت ذات الشيء فمنعني أخي.

لم ينقطع الرصاص دقيقة واحدة، وصلتْ مجموعة من قلب الخالدية، أحدهم يحمل مسدساً ويلوِّح به في الهواء، كان يبكي، "يللا عالاعتصام يا شباب"، "نحنا ما معنا سلاح"، ردَّ أحدهم "أنا اتصلت بالبدو، بعشيرة العقيدات، رح يجوا ويجيبوا سلاح"، أجاب آخر، كنا كمجموعة طيور مكسرة الأجنحة تبحث عن مخرج من حفرة، وحولها قطعان ذئاب.
من مئذنة الجامع بدأنا نسمع صوتاً "حي على الجهاد يا أخوان، حي على الجهاد، الله أكبر، الله أكبر، يا الله"، خرج رجل من منزله بملابسه الداخلية، "الشيخ عم يقول حيَّ على الجهاد، شو عم تستنُّوا؟"، كان الأمن يحاصر الجامع، وفيه تختبئ مجموعة ممن استطاعوا الهروب حاملين بعض الجرحى، حسب بعض الشهود، كان في الجامع شخص غريب، صعد إلى المئذنة ونادى بهذه العبارة، وهو ما كان قد حدث في ساحة الاعتصام، حيث نادى البعض بهذه العبارة، فطردهم النشطاء من الاعتصام.

توقف إطلاق الرصاص في الساعة الرابعة فجراً، دخلنا إلى بيوتنا، أغلقنا باب البناء بقطعة كبيرة من الحديد، وحصَّنَّا الشبابيك بما لدينا من قطع خشبية وأكياس ملأناها بالثياب، كل منا يطمئِنُ الآخر إلى أن الأمر قد انتهى، وعيوننا ملأى بالخوف والوحشة. نُشلت جثث الضحايا بجرَّافة، ثمَّ عُبئت في شاحنات كبيرة، بعضها توجَّه إلى المشفى العسكري في حمص، وبعضها غادر إلى مكان مجهول، غسل عناصر الأمن الساحة من الدم بسيارات الإطفاء، هذا ما أجمعت عليه شهادات الذين رأوا ما حدث من شبابيك منازلهم القريبة، وهو ما شهد به جندي شارك في العملية، ثم انشقَّ وهرب إلى لبنان، حيث أكد أن عدد الضحايا بالمئات، وكانت المخابرات الجوية والعسكرية هي التي نفَّذَتِ المجزرة بإدارة "حافظ مخلوف" ابن خال بشار الأسد، وخلال الأشهر التالية، سُلمت جثث بعض الضحايا إلى أهاليهم، بعد أن أجبرتهم إدارة المشفى العسكري على توقيع ورقة تفيد بأنهم قُتلوا من قبل الإرهابيين.

ما حدث خلال أربع عشرة ساعة، وهي مدة الاعتصام والمجزرة، يختصر أربع سنوات من تحولات الثورة، من قمة التظاهر الحضاري إلى قمة الهمجية، كما يختصر الأسباب التي أودت بسورية إلى الحرب الأهلية، وكيف نجح النظام بجعل الثورة ناراً تأكل السوريين.
شيَّع الحمامصة الشهداء الذين استطاعوا إخراجهم من الساحة، فأطلق الأمن الرصاص على المشيِّعينَ ليصبحوا شهداء، عصراً تحولت حمص إلى مقبرة، السماء صفراء كوجوه الأطفال، عدتُ إلى حي "الوعر"، كان وحش الصمت محيطاً بالمدينة، وحين غفوت في الغرفة، دخلَت حشرة واصطدمت بضوء النيون، هل عادَ الرصاص؟، تساءلت وقد أفقتُ مذعوراً، ولم أزل في ذعري حتى هذه اللحظة.
المساهمون