الحكم العثماني ليس استعماراً
أثارت مقالةُ كاتبِ هذه الأسطر "سورية ليست عظيمة" المنشورة الأسبوع الماضي (30/8/2020) في "العربي الجديد" ما كان متوقعاً من ردود أفعال، وبالأخص ملاحظتي إن "الدولة العثمانية ليست دولة احتلال، كما تصورُها المناهج المدرسية البعثية، فلو كانت احتلالاً لثار عليها بعض الناس مثلما ثاروا على فرنسا، ولَمَا صبروا على حكمها أربعمئة سنة". وبالتدقيق في العبارة، يتضح أنها تحتاج إلى توضيح فوري، وهو أنني، أخاكم، لا أنظر إلى الدولة العثمانية أنها جيدة، وحضارية، بل ربما أعاق قيامُها قبل 500 سنة احتمالَ أن تذهب بلادُنا في مفترق حضاري آخر.. ولكن المقصود أن غالبية الناس قبلوا بها لأسباب دينية. ولا يخفى أن أحمد عزت العابد (الدمشقي) وأبا الهدى الصيادي (المعرّاوي) كانا مستشاريْن للسلطان عبد الحميد، وكانت لهما صلاحيات واسعة.
لم يرفض الشعب السوري (إذا صحّت هذه التسمية) الدولة العثمانية مثلما رفض الاحتلال الفرنسي، ومشروعَ الدولة الصهيونية لاحقاً، فقد تصدّى لقوات الجنرال غورو عشية وصولها إلى دمشق 1920، وجَنّد الجيوش لإنقاذ فلسطين فور إعلان قرار التقسيم في مايو/ أيار 1948، بينما استمرت الدولة العثمانية 400 سنة، كانت خلالها تقوى وتضعُف، تزدهر وتتأخر، ومع ذلك لم تقم ثورة شاملة عليها، بل عصيانات وتمرّدات متفرّقة لم تشكل ظاهرة تاريخية. أما التصادم الحقيقي فقد وقع بعد وصول الطورانيين إلى السلطة، وإعلانهم العداء للعنصر العربي، بدءاً من سنة 1909، فتأسست جمعية العربية الفتاة مقابل تركيا الفتاة، وظهرت دعواتٌ إلى المقاومة، منها قول جميل صدقي الزهاوي: "بني يعربٍ لا تأمنوا التركَ بعدها".. ولم يأخذ هذا الصراع أبعاداً خطيرة، لأن الإمبراطورية العثمانية انتهت مع نهاية الحرب.
جاء في الفصل الثالث من كتاب الأديب الباحث محمد كامل الخطيب "وردة أم قنبلة - إعادة تكوين سورية 2006"، الصفحة 49، أن هناك خطأ شائعاً في الأدبيات القومية العربية، وصف الأتراك بالمستعمرين، ووصف الفترة العثمانية بـ الاستعمارية. وهذا، برأيه، خطأ علمي منهجي، يأتي في باب تفسير الماضي بالحاضر. ويوضح الخطيب أن العثمانيين هم إحدى الأسر الحاكمة في الإمبراطورية الإسلامية، مثلهم مثل العباسيين والفاطميين والأيوبيين والمماليك، واللاحم لتلك الدولة هو الدين.
يمكن مناقشة الفكرة ذاتها من زاوية أخرى، بطرح السؤال: كيف نفسّر أن معظم الرجال الذين ملأوا المقاعد السياسية في سورية، بدءاً من 1918 وحتى 1958، كانوا من الدارسين في مدارس المملكة العثمانية، وجامعاتها؟ أحمد قدري، وهو من مؤسسي جمعية العربية الفتاة في سنة 1911، ومن أركان الدولة الفيصلية لاحقاً، كان قد درس في إسطنبول. وهاشم الأتاسي الذي شَكّل الحكومة السورية، وصار رئيساً لسورية أكثر من مرة حتى لُقب "أبو الجمهورية"، تلقى دراسته الابتدائية والثانوية في حمص، ثم انتقل إلى إسطنبول، حيث درس الإدارة العامة في الأكاديمية الملكية، وتخرج منها سنة 1895. محمد علي العابد أول رئيس لسورية (1932) كان يعمل في السلك الدبلوماسي، وعين سفيراً للسلطنة العثمانية في أميركا. رئيس وزراء سورية أكثر من مرة، فارس الخوري، كان نائباً عن مدينة دمشق في "مجلس مبعوثانِ".. وحتى الذين ثاروا على الفرنسيين، ومنهم مثلاً إبراهيم هنانو، درس في إسطنبول، وعُين بوظيفة قائمقام بالقرب من إسطنبول، ثم في نواحي أرظروم، وتزوج تركية، وحينما ثار على الفرنسيين كان يستمد الأسلحة والعتاد من الأتراك. وكان هنانو رئيس ديوان ولاية حلب. أما والي حلب رشيد طليع، وهو من دروز لبنان، فهو خرّيج جامعة دار الفنون في إستانبول (إسطنبول)، وقد شغل عدة مناصب حكومية رفيعة في الدولة العثمانية، منها متصرف حوران، ومتصرف طرابلس الشام، ومتصرف اللاذقية.
أخيراً؛ وفي كل الأحوال، هذه قراءة في تاريخٍ مضى، قد تصيب وقد تخطئ.