الحق المهزوم

02 ابريل 2015
+ الخط -

أعلم أن العنوان قد يكون صادما لك، لكني أعلم أيضا أن بعض الصدمة قد يكون مفيدا. والحق المقصود هنا هو المعنى الجامع لكل خير وعدل، وهو بهذا شيء معنوي، لا يمثله رجل ولا حزب ولا جماعة ولا دولة. هو شيء منفصل عن كل هؤلاء، فلكل موقف حقه وباطله، فمن كان معه الحق اليوم، قد يفارقه غدا، ولذا قيل اعرف الحق تعرف أهله.

(من ظن أن الباطل سينتصر على الحق فقد أساء الظن بالله).. عبارة انتشرت على نطاق واسع في مواقع التواصل الاجتماعي، وهي أحد الدوافع وراء كتابة هذا المقال. يفترض قائل العبارة، ولا أعلم من هو، أن الحق دوما وعلى طول الخط منتصر، وهو إذ ينطلق من هذه الفرضية، يصطدم اصطداما مباشرا مع كثير من وقائع التاريخ وشواهده التي تنبئ بالعكس.

فالغالب في تلك الوقائع أن انتصار الباطل هو القاعدة، وأن انتصارات الحق عليه إنما تأتي كومضات سريعة، لا تعدو سوى استثناءات تؤكد القاعدة ولا تنفيها.

في صفحات التاريخ مثلا إن (باطل) كفار قريش انتصر على (حق) المسلمين في معركة أحد، وإن انهزامات أخرى لحقت (بحق) المسلمين، وكان بينهم رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، كيوم حنين. وإن كان صحيحا أن المسلمين الأوائل تمكنوا من بناء دولة انتصرت (للحق) في سنيها الأولى، فإن الصحيح أيضا أن ثلاثة عقود فقط مرت عليها، تمكن (الباطل) بعدها من الولوج في جسدها وهزيمة الحق داخلها.

وفي منطقتنا المنكوبة تمر ستة وستون عاما أو يزيد على تمكين (باطل) الكيان الصهيوني، الغاصب للأرض، واستمرار تحقيق انتصارات لأباطيله المتتالية. ستة وستون عاما والدولة المصنعة غربيا تواصل انتهاكات شبه يومية من قتل وتشريد لأصحاب الأرض، فضلا عما تمارسه من سطو مسلح على التاريخ والجغرافيا ومقدسات المسلمين والمسيحيين في المدينة العتيقة.

في سبتمبر/أيلول 1978، أقدمت مصر على صلح تاريخي مع هذا الكيان، فخرج شاعرها الكبير أمل دنقل معترضا عليه مؤكدا أنه: "عندما يملأ الحق قلبك/ تندلع النار إن تتنفَّسْ/ ولسانُ الخيانة يخرس/ فلا تصالح". لكنّ ستة وستين عاما مضت ولم تندلع النار من أفواه أصحاب الحقوق حين ينطقون، ولا ألسنة الخيانة سكتت، بل تبجحت بعضها، فصنفت، في حكم قضائي، كبرى حركات المقاومة بالإرهاب، في خلط مروع بين حق المقاومة وباطل الإرهاب.

كما أن أربع سنوات مضت على (حق) الثورة السورية، وهي لا تزال تواجه بألم شديد هزيمة على أيدي (باطل) النظام وسنده الإقليمي، الذي أوسعها قتلا وتدميرا وتشريدا وتهجيرا. وفي الناحية الأخرى من الكرة الأرضية، تمكن (باطل) المهاجرون الغزاة في أميركا من هزيمة (حق) أهل البلاد الأصليين، الهنود الحمر، وإبادتهم وسحقهم تحت الأقدام، بعد الاستيلاء على أراضيهم. ومن الأمثلة الأخرى كثير لا يتسع المقام لذكرها، تذهب مجملها إلى دحض القول المأثور سلفا.

لا يعني هذا طبعا أن الحق دوما مهزوم، بل يعني أنه لا موقع لخفة القول بحتمية انتصاره، إذ إن هذا الانتصار له شروط ذاتية وموضوعية ومرهون بعوامل وظروف ومعطيات وموازين قوته وطبيعة حامليه، في مقابل عوامل وظروف وموازين وقوة الباطل وطبيعة حامليه، فالباطل الذكي قد يهزم الحق الساذج وكم رأينا من هذا كثيرا.

لا علاقة هنا ولا داعي أصلا للخلط بين الهزيمة الواقعة (للحق) وبين الركون (للباطل)، ذلك أن الهزيمة والانتصار لطرف منهما لم ولن ولا يغير في معنى أو مبنى أي منهما شيئا.


(مصر)

المساهمون