الحريري .. حكم متأخّر جداً
جاء الحكم في قضية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق، رفيق الحريري، متأخراً في توقيتٍ تم فيه تجاوز ظرف الاغتيال، ولدى لبنان الآن راهن مقلق بعد انفجار الميناء، والجهات التي كان يتطلع الجمهور لإدانتها أصبحت مدانة بشكل مبرم، ومن دون أن يتولّى قاض من أي درجة توجيه التهمة إليها. كان السياسيون اللبنانيون في فترة اغتيال الزعيم الكبير رهينة إشارات دمشق عبر وسيط أمني يدعى رستم غزالي، وكان كل شيء في لبنان مرتبطا بإرادة دمشق. وعلى الرغم من صدور قرار أممي في سبتمبر/ أيلول 2004، أي قبل الإغتيال بخمسة أشهر، يقضي بضرورة مغادرة القوات الأجنبية لبنان وحل المليشيات المسلحة وانتخاب رئيس لبناني بشكل حر، وعند مفترق اختيار رئيس لبناني جديد أو التمديد لإميل لحود، ظهر الرئيس الحريري في مشهد أخير بيدٍ ملفوفة بالجبس ومثبتة إلى الرقبة، في كناية بليغة بأنه كان مغلول اليد وليس له حيلة لمنع ما يجري، فقد كان هناك تواطؤ على إطلاق اليد السورية في لبنان، وبصمت عربي تقوده السعودية، بعدها مباشرةً دوّى انفجار قوي هزّ بيروت أودى بحياة الرجل الذي تطلع إليه بعض اللبنانيين بوصفه الخلاص الأخير.
وصلت المحكمة إلى قرار نهائي في الحادثة بعد خمسة عشر عاما، لكن القاضي أجّل النطق بالحكم بضعة أيام حتى يتبدّد أثر ارتدادات تفجير مرفأ بيروت الذي جرى قبل أكثر من أسبوعين، وعندما حلّ الموعد أخيراً، أُعلن قرار المحكمة، فلقي سخرية واستخفافا.. جاء القرار حافلا بالمصطلحات القانونية، ومستوفيا حيثيات قضية جنائية، ولكنه لم يتضمن حكما حاسما بتجريم الجهة التي يجزم فريق كبير أنها وراء الجريمة، واكتفى بإدانة واحدٍ من أربعةٍ اتهمهم الادعاء العام، وقالت المحكمة بعبارة واضحة إنها لم تجد أدلة كافية تدين النظام السوري أو حزب الله. في مثل هذه الجرائم التي تنظمها أجهزة أمنية كبيرة، تتقصد أن تغرقها بتفاصيل كثيرة ومتشعبة، لأنها تحسب حساب التحقيق الذي سيتوخّى أدق الأمور المتعلقة بالقضية. وعلى هذا الأساس، وصلت أوراق الحكم إلى أكثر من 2600 صفحة، تتطلب قراءتها عشرات الساعات، ولكن الحكم الذي أغفل الإدانة الصريحة لأي جهة ركَّز على نقاطٍ يبدو أن المحكمة تستشعرها، ولا تقوى على التصريح بها، لنقص القرائن اللازمة، فهيئة المحكمة متأكّدة أن ما حدث للرئيس الحريري جريمة إرهابية تحمل مضامين سياسية، وقد لقي الرجل هذا المصير من خصوم سياسيين يخشون مواقفه. ويذكر الحكم بوضوح أكبر أن ما حدث للوزير مروان حمادة قبيل حادث الاغتيال كان تحذيرا لكل من الحريري والنائب وليد جنبلاط. وفي هذه العبارة ما يكفي للإشارة إلى الجهات التي تعتمد أسلحة التهديد والتحذير لابتزاز خصومها، وإجبارهم على اتخاذ مواقف ترغب بها. وفي هذا ما يدعو إلى قراءة ما بين السطور التي تضمنّها الحكم، مدركا الجهة التي اغتالت الحريري، وهي نتيجة مهمة لكنها جاءت بعد 15 عاما.
تجاوزت الحالة اللبنانية الراهنة هذا الحكم، ففي الخلفية هناك مجرمٌ واضحٌ يعرفه الجميع منذ 15 عاما، ورسّخ إجرامه بشكلٍ لا يدعو إلى الشك، بعد حرب شارك فيها ضد الشعب السوري عشر سنوات. وفي تفاصيل الحاضر المأساوي في لبنان، لدينا الآن انفجار آخر أكثر تدميرا، وهو ليس بحاجة إلى محكمة دولية تستغرق 15 سنة أخرى، فما يعتمل في صدر الشارع اللبناني لم يعد قادرا على الانتظار كثيراً، والمدينة التي أصبحت من دون ميناء أصبحت بحاجة إلى طبقة سياسية جديدة، وعقد اجتماعي جديد يتجاوز كل معادلات المرحلة الحالية التي تغض الطرف عن التسلح وعن الطوائفية وعن التعامل مع الخارج. تحتاج الحالة نظرة نحو الداخل فقط، حيث يستعير الداخل حلوله من الغبار الذي تناثر بعد انفجار أطنان نترات الأمونيوم المهملة بقلة اكتراث في رئة المدينة المتعبة.