الحرب الأهلية بوصفها فزّاعة

18 يوليو 2019
+ الخط -
النسيان هو العنوان الأعمّ لتاريخ الحرب الأهلية. هو المطلوب منذ نهايتها، أي منذ ما يقارب الثلاثين عاماً. المُتاح هو تذكّرها عند التواريخ المحدّدة، واقعة "البوسطة"، خصوصاً، في 13 إبريل/نيسان من كل عام، والتي اشعلت الحرب في لبنان، بحسب المتداوَل من الكلام عنها. بكاء وتحسّر، وحنين، وتحذيراتٌ لطيفة من أنه ليس علينا تكرارها. ما يشبه صلاةً على ميت لم يدفن بعد. والشعار الأكثر شعبيةً من بين الناس هو: "تنْذكر وما تنْعاد" (تُذكر ولا تُكرر). بكلمتين فارغتين، تُمحى ذاكرة الحرب، ويتم القضاء على التاريخ. كلمتان مثل شَحْطة قلم أحمر، تعطي العلامة وحسب، من دون ملاحظاتٍ، ولو جانبية.
ربما بسبب هذا "التعويم" للحرب، حيث يطفو الخفيف على الذهن، ويبقى الثقيل على القلب. ربما بفضل هذه المصادرة لتاريخ هذه الحرب، يصبح تناول فصولها مادةً دسمةً لتحويلها إلى شبحٍ يهدّد كل مرة "السلام" الذي ننْعم به منذ ثلاثة عقود. تكون نقزة، أو ترداد لهزّة بعيدة قريبة، أو حيرة، أو سجالٍ على "حقوق"، أو أية إشارة اختلال التوازن، الهشّ أصلاً، بين أهل الحكم، فتعود أشباح الحرب. يكون أحد الحكام صائماً عن الكلام حولها، يرتّل مع الآخرين أنشودة "تنْذكر وما تنْعاد"، يكون يمامةً محلّقةً في سماءٍ يحاول استعادة صفائها، أو "مسؤول" أمام الشعب والله عن ترسيخ السلم الأهلي.. إلخ؛ وإذا بحُفْرةٍ تصيب وعيه، فيتذكّر الحرب التي يريدها؛ أي الحرب التي تنْشله من نُقرته. فيأخذ سحبات نفسٍ عميق، ويبدأ بالرواية، أو الأحرى بفصلٍ من رواية الحرب. ما قصده بذلك؟ إحراج "مجرمين" اشتركوا في الحرب، ويشتركون 
معه الآن في الحكم، وحان قطاف رؤوسهم، بعدما اختلّ شيءٌ من الميزان. ففي وقتٍ يمنع على اللبنانيين تنشق الهواء النظيف الذي يسمح لعقولهم أن تتفتح على الماضي القريب، الذي ما زالت الدماء تنزف من جروحه؛ في الوقت الذي تُمنع عنهم المعرفة الدقيقة للحرب، تُحجب ذاكرتهم، تُميتُها، تشتّتها بالمهاترات والمناكفات، بالحقوق والكرامات.. في هذا الوقت بالذات، يتصرّف "المسؤولون" وكأن الحرب هي خزان الفزّاعات، يختارون ما يناسبهم من فصول، ولا همّ عندهم الدقة، ولا التفصيل الذي يقلب حجتهم رأسا على عقب. فيلعبون بها، يذيعونها وسط الناس، يضحكون بها، ويتصوّرون أنهم بذلك إنما قضوا على وحش الغابة المستجد؛ يضعون رجلاً على جثته وأخرى على الأرض، وهم رافعون بندقية الصيد الأوتوماتيكية، استعداداً لالتقاط صورة النصر.
يفعلون المستحيلات كي يغْمغموا، ويقتطعوا، ويشوّهوا، يزوّروا.. لماذا لا يريدون "النبش" المنهجي بالحرب ودوراتها؟ لماذا لا يحاولون، من ضمن محاولاتهم اللامعة، أن يتفقوا، كما يفعلون مع الصفقات، على محاولة، مجرّد محاولة، لكتابةٍ "وطنية" لتاريخ الحرب، تكون مناسبةً للانسجام مع مضمون النشيد "الوطني" الذي لم يَعُدْ، حتى هو.. "وطنيا"؟ جوابهم بسيط: إنهم لا يريدون تقسيم اللبنانيين مجدّداً، يريدون تجنّب الحرب. ولكنهم في المقابل، كلما حانت فرصة، ذكرى، مناسبة، أخرجوا الفزّاعة، احتفلوا بالانقسام، أفلحوا في إحيائه. يكون اللبناني سعيداً بنسيانه الحرب، مذعناً لأوامر النسيان، يحاول أن يرمّم حياته، للمرة الألف، ترْميماً يومياً.. ولكن تباً! الذين طلبوا منه محو ذاكرته الحربية، يعودون، بين كل خضّة وأخرى، فيحيون مشاهد القتل والدماء، تقزيما لعدوهم، الداخلي دوما، وتعظيما لنقاء دمائهم من جينات المجرمين، شركائهم في الحكم، أو منافسيهم على الحُصص.
أيضاً، ليست فصول الحرب كلها على سويّة من "تذكّرٍ" كهذا: مقابل الضجيج العالي بشأن ضحايا وقعوا على يد أعداء، لم يعودوا أعداء، إما لأنهم هزموا، أو اندثروا، أو مثل الإسرائيليين صاروا "العدو" بالتعريف، لا شريك له، إلا عند الخوَنة والمتعاملين والمتخاذلين.. مقابل هذا الضجيج بشأن مجازر ارتكبها واحد من هؤلاء الأعداء، ثمّة صمتٌ مطبقٌ حول مجازر ارتكبها هو أو حلفاؤه، لا يُكسر إلا عند أول إشارة لاختلال الموازين.
يدور البحث في تاريخ الحرب الأهلية حوله أكثر من انقسام، مرْوَحة من الانقسامات. ولكن 
البحث بالحرب يفضي إلى البحث بما قبلها. وهذا "الما قبل" أصلاً لا اتفاق حوله، لا حول تأسيس لبنان، ولا ما تلاه من هيمنات، من تضاربٍ للطوائف، من نعيم، من جحيم. البحث بالحرب الأهلية هو بحث في تاريخ هذا الانقسام. لولا هذا الانقسام أصلاً، لكان اسمها حرباً "وطنية"، أو عالمية ثالثة.. لا "حرباً أهلية". هل لهذا السبب يُحجم المسؤولون عن كتابة فصول الحرب، أو تمويل هذه الكتابة، أو إصدار مشاريع قوانين تؤسّس لهيئاتٍ منوطة بها؟ إنه سبب غير وجيه، فالمعروف أن المنتصرين يكتبون التاريخ، ويبذلون الغالي لصياغة السردية التي ترفعهم إلى فوق، تلغي جرائمهم، وتقبّح صورة أعدائهم... تثبيتاً لشرعيتهم الجديدة. شيءٌ من هذا لم يحصل معنا. هل يعني ذلك أنه ما من منتصر حيقيقي حتى الآن في هذه الحرب؟ وإن الحكم الذي تسلّمه من يُفترض أنهم المنتصرون مع نهاية الحرب، هو حكم "شبَحي"، مثل الحرب، ليس من هذا العالم، إنما من صميم الخيال؟
دلالات