الحرام في البلد الحرام

30 ابريل 2015
+ الخط -

حان موعد الرحلة التي تأجلت سنوات، "عند الكعبة لك دعوة مستجابة" تقول زوجتي، و"ماء زمزم لما شرب له"، أتذكر قول أخي. في الطريق إلى العمرة تتردد في أذني آيات الله الحكيم عن الكعبة وقصة بنائها والجهد الشاق الذي قطعه نبيا الله إبراهيم وإسماعيل في رفع قواعد البيت.

أسرح بخيالي متصورا المسجد الحرام، الذي جعله الله مثابة للناس وأمنا، وقبلة للمسلمين، أتذكر معارك الإسلام الأولى، بدر وأحد وحنين والخندق ويوم الفتح، تلك أقدس بقعة جغرافية، تحكي للمسلمين تاريخا مهما وقديما قدم الدين ذاته. "السفر قطعة من العذاب"، هكذا قال رسول الله، لكن السيدة عائشة كانت ترى أن "العذاب نفسه قطعة من السفر". مضت ساعات الليل في الطريق، وعند الوصول تلاشت آلام الجسد أو تكاد، لكن ألما روحيا تسلل لما رأيته من أحوال البلد الأمين.

كنت أظن، وهو الأقرب إلى المنطق، أن تكون الكعبة برمزيتها وقدسيتها وحجرها الأسود، هي العلامة الأبرز للمكان كله، فلا تخطئها عين هنا. لكن ذلك ليس كذلك، فالأبرز هنا فنادق شاهقة، تتفاخر بعلوها، الذي يصل حد الطغيان على البيت المعمور.

ساعة مكة، واحد منها، يرتفع 1972 قدما فوق الأرض، أحد أطول المباني في العالم! ناطحة سحاب تحاصر البيت العتيق. في عام 2012 بني الفندق فأخفى تحت قواعده وخرساناته العديد من المواقع التاريخية والأثرية يعود عمرها لأكثر من ألف عام، يقال إن من بين ما اختفى بيت السيدة خديجة زوجة النبي الأولى، كما أخفى فندق مكة هيلتون تحت أعمدته بيتا أثريا للصديق أبي بكر.

هنا يأتي الناس في المقام الأول متعبدين لا سائحين، لكن على يمين الحرم وشماله وأمامه تمتد مطاعم ومحال فاخرة جامعة لكل ما لذ وطاب، فتجعل من الاستهلاك هدفا موضوعا على أجندتك، حتى لو لم تخطط لذلك... كيف غرقت المدينة القديمة في هذه الحداثة غير المحمودة على هذا النحو؟!

بدأنا الشعائر، على مقربة من المسجد أقرأ لافتة كتب عليها باب النساء، أشير لزوجتي بالدخول منه، لكنها تخبرني بأن الرجال أيضا منه يدخلون، لا بأس، فلماذا لا يزيلون اللافتة أو يمنعون الرجال من الدخول؟ ليس أسوأ من حصار الفنادق الشاهقة من الخارج، سوى حصار آخر في الداخل، آلات البناء والتسليح والصلب والخرسانة تنتشر في البيت ضمن مشروع لتوسعته. مشروع بدأ منذ سنوات ولا يزال مستمرا. هل ثمة سبب منطقي للتأخير؟ هل ثمة عجز مالي مثلا يحول دون الإتمام؟ حتى هذا المشروع على ما فيه من خير ظاهر تقول صحيفة الاإندبندنت البريطانية إنه سيدمر في طريقه مئات المناطق الأثرية في مكة... لماذا لا نتوسع دون تغول على التاريخ وعلى أقدس المواضع فيه؟

حان وقت الصلاة، الزحام شديد وهو صفة ملازمة للمكان، ينتظم الناس صفوفا، فإذا برجل تسعيني يصحبه حفيده، يوقفه في مكان ما، ينهره مصل آخر بصوت عال: رايح فين يا حاج؟ مينفعش كدا؟ هكذا بطريقة مؤذية لم تراع شيخوخته، لماذا لا توقرون كبيرنا؟

خرجنا نبحث عن طعام، تقف أمامي سيدة تسأل الناس. تسول أمام بيت الله!! ظننتها حالة فردية، لكن تكرار الموقف أكد أنها ظاهرة. أعطيتها بعض مال، رفضت بحجة أنها ليست كافية. هذا ليس تسولا فحسب، بل ممارسة للتسول في صورته الأسوأ. قلوبنا مع الفقراء، لكن هل هذا يرضي الله أمام بيت الله؟

تسير وتجد دوما من يعرض عليك تأجير سيارة لطفل أو لكبار السن، بمبالغ تقترب من ثمنها الأصلي، وبالصدفة اكتشفت أنها خدمة مجانية متوفرة في موقع آخر. هل يصعب كتابة علامات إرشادية تغلق الباب أمام تجار الأزمة؟

تخرج بعد الصلاة فيوقفك كثيرون، يعرضون عليك خدماتهم بحلاقة شعرك، استكمالا للنسك، تذهب معه فيصدمك حجم الإهمال وغياب النظافة، إن دينا يحث على النظافة بشدة كيف يمثله هؤلاء؟!

في الرحلة التقيت مسلمين شتى، عربا مصريين وعراقيين وفلسطينيين ومغاربة، وأجانب من باكستان وأفغانستان وأوروبا والبلقان، أغنياء وفقراء، سنة وشيعة، عجما وتركا، نتجاذب أطراف الحديث، فأنتهي في كل نقاش بحقيقة مفادها أن مجمل قضايا المسلمين الراهنة لا تزال محل خلاف غير محسوم... الأمة الكبيرة الممتدة كيف توحدت مرجعيتها واختلفت حد التناقض في جل قضاياها تقريبا بدءا من المقاومة وانتهاء بالمسح على الخفين؟

في الرحلة أشياء ملفتة أخرى، أبرزها سوء التنظيم وضعف البنية التحتية في المدينة الأهم لكل المسلمين، كل ذلك لن يحرمك متعتها واشتياقك لتكرارها، وظني أنها ستكون أكثر متعة وشوقا حين نكون فعلا خير أمة أخرجت للناس.


(مصر)

المساهمون