الحراك النيكاراغوي.. في مواجهة الأشجار المعدنية

20 ابريل 2019
(متظاهرون يتسلقون "أشجار الحياة" لإسقاطها، 2018، تصوير: إنتي أوكون)
+ الخط -

يُشبه الحراك الشعبي الأخير في نيكاراغوا الذي بدأ العام الماضي، ظواهرها الطبيعية كالزلازل والبراكين، إذ يقال إن زلزالاً قوياً يداهم هذا البلد كلّ أربعين عاماً كان آخرها عام 2014.

وكحال الزلازل، حراكٌ يقوم كل أربعين سنة؛ ففي ثلاثينيات القرن الماضي، بدأ تمرُّد الثائر أوغستو ساندينو ضد الهيمنة الأميركية في بلاده. استلهمت الثورة الساندينية اسمها منه حين أُسّست في الستينيات تمرّداً على الرئيس الديكتاتور أناستاسيو سوموسا الموالي للأميركيين، لتنتصر عام 1979.

أما الحراك الأخير ضد الرئيس دانييل أورتيغا، فهو أشبه بالبركان الخامد الذي ثار فجأة. وأمس، في 19 إبريل/ نيسان، مرّت الذكرى الأولى للحراك الذي بدأ باحتجاجات على قرار تعديل الضمان الاجتماعي من قبل المتقاعدين وطلاب الجامعات، قابله عنف من الشرطة، فانتفاضة شعبية تهدأ وتثور بين الحين والآخر منذ عام. اختلطت مشاهد الثورة والتمرد بالبساطة وحسّ السخرية اللذين يتميّز بهما النيكاراغويون. وأول ما يثير السخرية، أن يكون الديكتاتور الجديد هو الثائر القديم، ومن اعْتُقِل صبيّاً يافعاً، يَعتقل اليوم طلّاب الجامعات حتى اضطر الكثيرون إلى مغادرة البلاد ومتابعة حراكهم من المنفى.

بحلول عام 2013، وبأمر من "السيدة الأولى" روساريو موريو، أو "تشايو" كما يسمّونها في نيكاراغوا، ظهرت أشجار معدنية ملوّنة تضاء ليلاً في شوارع العاصمة مناغوا، وكانت المعارضة قد انتقدت التكلفة العالية لتلك الأشجار المعدنية في بلد فقير كنيكاراغوا (اسمها للمفارقة "أشجار الحياة"!). وكانت أولى مظاهر التمرد أن اقتلع المتظاهرون الكثير من "الأشجار" من خلال ربطها بالحبال وشدّها. بمجرد أن تهتز الشجرة المعدنية متهيئة للوقوع، كان المتظاهرون يركضون مبتعدين عنها، لكنّ مصوّراً صحافياً من غواتيمالا سُحق تحتها، إذ لم يحظَ بخبرة المتظاهرين النيكاراغويين في الهرب في الوقت المناسب.

ما فعلة ثوار الساندينيستا في ثورتهم في سبعينيات القرن الماضي، أعاد تنفيذه ثوار اليوم ضدّ الرئيس أورتيغا... إقامة الحواجز بين المدن وفي المدينة الواحدة، لشلّ حركة البلاد الاقتصادية وحثّ الرئيس على تنفيذ المطالب. ومن أجل ذلك، كان المحتجون يخلعون بلاط الشوارع، ويصفّونه فوق بعضه البعض حارسين الحواجز باستخدام بنادق يدوية يسمونها "مورتيرو"، يصنعونها بأنفسهم. قد يكون الحاجز شجرة، أو إطارات سيارات، أو لافتة كبيرة أُنزلت من عليائها ونصبت في الشارع.

"القائد ذو الرداء الأحمر"، بهذا الاسم اشتهر فرناندو غايتان فلورس، أحد المتظاهرين المنضمّين للاحتجاجات ضد الرئيس أورتيغا وزوجته موريو. كان قد ارتدى قناعاً أحمر، وخرج في بداية الاحتجاجات على شاشة التلفاز وهو يدعو الرئيس وزوجته إلى ترك الحكم، متبعاً كلامه بأقدح الشتائم بحقهما.

وكان هذا بحدّ ذاته جرأة غير معهودة في ظلّ الحكم السانديني. ينتمي فلورس إلى مدينة مونيمبو التابعة لماسايا، وهي المدينة نفسها التي قاومت نظام الديكتاتور أناستاسيو سوموسا في القرن الماضي. بات ذو الرداء الأحمر أيقونة للثورة، رُسم وجهه المدثَّر بالأحمر كغرافيتي على جدران المدن، طُبعت صورته على القمصان وصُمّمت دمى خشبية على هيئته. لكن ما حدث في القصة الأصلية "ذات الرداء الأحمر"، وانسياقها وراء الذئب تكرّر مع فلورس، إذ خرج بعد فترة على شاشة التلفاز التابع للحكومة ليقول إنه كان ثملاً حين قال ما قال.

من أشكال الاحتجاج السلمي قرع الطناجر والأدوات المنزلية، وقد بدأ منذ عام 1978 بعد مقتل رئيس تحرير صحيفة "لا برنسا" بيذرو هواكين تشامورو، حين كان الأهالي يخرجون كلّ يوم في الساعة السادسة يقرعون الأواني احتجاجاً على نظام سوموسا. وتشامورو هو زوج فيوليتا تشامورو، رئيسة نيكاراغوا بين 1990 و1997، وقد ازدهرت حرية الصحافة في عهدها، وقد اختار ابنها فرناندو أن يسلك مسيرة والده، إذ يمتلك موقعاً إخبارياً معارضاً لسلطة أورتيغا، ويواجه التضييق المُمارس على الصحافيين، دون أن يشفع له تاريخ والديْه.

منذ أن تسلّم أورتيغا زمام الحكم عام 1979، بدأ رفاق الثورة يتفرّقون عنه تباعاً، ومن اللافت في الثورة الساندينية أن الكثير ممن انضمّ إليها كانوا من المثقفين والكتّاب، ومن أبرزهم القسّ الشاعر إرنستو كاردينال، الذي كان وزيراً للثقافة بين 1980 و1987، والروائي سيرهيو راميرس، وكان نائب أورتيغا لخمس سنوات قبل أن يقرّر التفرغ للكتابة والابتعاد عن السياسة، والشاعرة جيوكوندا بيلي، والكثير ممن تسلّموا مناصب هامة خلال الفترة التي تقلّد فيها أورتيغا الحكم بعد انتصار الثورة الساندينية وحتى عام 1990، وأبرزهم أوسكار رينيه، وهو المسؤول عن إقامة العلاقات بين الثورتين: الساندينية والفلسطينية، وموسى حسان، الفلسطيني الأصل وكان رئيس بلدية العاصمة مناغوا بين 1986 و1989، فجميع المذكورين عارضوا ترشح أورتيغا للحكم مرة أخرى ووصفوا تصرّفاته بالمستبدة.

في السادس عشر من مايو/ أيار 2018، وافقت المعارضة النيكاراغوية المكوّنة من الطلاب وأفراد من المجتمع المدني على الحوار مع الحكومة، وكان عدد الضحايا من المتظاهرين وقتها بالعشرات. سمحت الحكومة للصحافيين بتغطية الحوار، وكان الحوارَ الأول والأخير الذي يحضره أورتيغا وزوجته موريو.

في هذا اللقاء وقف أحد الطلبة، الذي سيُعامَل لاحقاً كبطل، وقف أمام الجميع ووجه حديثه للرئيس وزوجته قائلاً إنهم ليسوا هنا للحوار، بل لمناقشة الطريقة المثلى لترك السلطة، بينما وقف آخر وبدأ حديثه بقصيدة لروساريو موريو زوجة الرئيس، تتحدث فيها عن فقدان طفلها الصغير إثر زلزال نيكاراغوا عام 1972، مذكّراً إياها بألم الأمهات اللاتي فقدن أبناءهن مثلها، وقد شكرته على تذكيرها بتلك القصيدة.

وموريو شخصية جدلية، فقد عملت في صحيفة "لا برنسا" سابقاً لكنها ترفض الإدلاء بأي تصريح حالياً. تتقن أكثر من لغة ومثقفة كما يصفها من يعرفها. كتبت الشعر سابقاً، وتمكنت من خلال سلطة زوجها من فرض كثير من آرائها، ويرى المقربون أن القرارات تتخذها هي، فتلك الأشجار المعدنية كانت فكرتها النابعة من إيمانها بفلسفات خاصة، ويسمّونها في نيكاراغوا "المشعوذة".

المساهمون