غالباً ما يُشكَّك بقدرة الأدب والفن على الفعل، ويُقال إن لا تأثير لهما، ويُتوخَّى ألّا يُعزى إليهما السبب في إحداث متغيرّات، ولو كان في خلخلة المستقر، أو صنع تحوّلات على المدى البعيد. الشواهد تقول، إنه مهما دبّ فينا الحماس من مشاهدة فيلم، أو مسرحية، أو قراءة كتاب، ولو كانت حمولتها الراديكالية وازنة، والنفوس محتقنة بتأثير مكابدة ضغوطات الاستبداد؛ فتأثيرها لن يدفع إلى أكثر من تداول الانتقاد همساً في المقهى، وربما احتجاج مجموعات صغيرة من المثقّفين من خلال التوقيع على العرائض، وقد يدفعون الثمن غالياً.
في أفضل الأحوال، يمكن اعتبار الأدب والفن موادَّ تثقيفية يستشهد بها المثقّفون في المجادلات الفكرية، ويستشهدون في نقاشاتهم بالتاريخ الهوية والعولمة والديمقراطية... ما يهدّد براءة الثقافة غالباً أنّ علاقتها بالسياسة لا تنفصم.
ومع هذا، لا غرابة في شبه الإجماع الحاصل على انخفاض فاعليتها على الأرض إلى الحدود الدنيا، فالمسرحية الثورية لا تجنّد مناضلين ولا مناصرين، ولو كانت تشفي الغليل. وإذا كان كتاب "الأم" لـ مكسيم غوركي أثار مشاعر العمّال ودموعهم، فإنه لم يساعد البلاشفة في الاستيلاء على السلطة. ورغم أن للسينما مريدين أوفياء، فإنهم لا يصلحون حتى في ظلام دور العرض على الإعداد لمظاهرة صامتة. ويشهد فيلم "المدرعة بوتومكين" لـ سيرجيه إيزنشتاين، برغم غليان الغضب لدى مثقّفين شيوعيين عرب من المذبحة على درج الأوديسا التي بدت حقيقية، لم تخلّف سوى ثرثرة منزوعة الأظافر.
تحيلنا الأمثلة السابقة إلى سلطات ابتدعت أجهزة الرقابة لحماية المجتمع وكأنه من لا شيء مؤثر. فالمثقّفون عاجزون عن الفعل تحت تأثير الأدب وحده. أمّا الذين دبّروا المؤامرات وقادوا حركات ثورية أطاحت بنظم حكم قائمة، فجاؤوا من العمل السياسي الحزبي السرّي، لا من قاعات المطالعة والمسرح والسينما.
لماذا ينصبّ عمل الرقابة على الفن والأدب إذاً؟ هل هو غباء السلطة، أم ذكاؤها؟ الأصح، وبمنتهى الدقة؛ عبقريتها الموسوسة بالتوجّس من هذا اللاشيء، بدعوى أنها تستشرف المستقبل، ترشدها درايتها بالفاعلية الخفية للفنون في السياسة والمجتمع والدين، وما عملها الرقابي سوى فعل استباقي لاستدراك أخطارها غير المضمونة، بمنعها من التعبير عن تمرُّد لن يكون إلا قلاقل تعكّر صفو سير الحياة الهانئة.
تدافع الرقابة عن أنظمة – ويا للعجب - لا تقيم للأدب والفن وزناً، هذا إن لم تستسخف بهما لضآلة شأنهما في حساباتها، وإذا أعارتهما اهتماماً، فبالحجْر عليهما، وربما لولاهما، لما كانت هناك رقابة، وكأنما هي من اختراعهما، لا من اختلاق بارانويا السلطة، المرض الملازم للاستبداد.
منع الكتب والعروض المسرحية والأفلام، لم تحتكره الدول المستبدّة فقط، الرقابة عمل تمارسه دول العالم كافّةً، من دون استثناء البلدان الديمقراطية، مهما بلغت ليبراليتها، وإن كان بالوسع الاحتجاج على المنع. المعنى أن جائحات القمع سارية في كل مكان وكل عصر، وإن اختلفت اتجاهاتها إلى حد ما، هو ممنوع هنا مسموح هناك، فالمجتمعات تتملّكها الهواجس مما يستجد.
هذه المهمّة أخذتها على عاتقها الدول الشمولية بكل كفاءة، في الدفاع عن مجتمعاتها بعدما أخرستها، وأصبح الاستبداد المعبَّر عن مخاوفه لا مخاوفها، ولم تعد مبالغته في المنع سوى أنه يخشى على بقائه، كأنه لا أقل من قضية حياة أو موت، لدى أي تلويح بأمارات تغيير ما، وإن كانت الحجّة الحفاظ على استقرار شعوبهم ضد الفوضى، مع أن البلاد مستقرّة بفعل أمراضها المستعصية، فالستار الحديدي يضع قيوداً على التنفُّس، ويحظر الهواء.