الجندي النازي الغلبان

18 فبراير 2015
أنا كنت أنفذ الأوامر، وأطبق القانون!
+ الخط -

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وقيام دولة الكيان الصهيوني.. بدأت هذه الدولة تبحث عن كل من شارك في قتل اليهود في ألمانيا فيما يطلق عليه (الهولوكست)، في ادعاء منها الوصاية على العدالة الكونية، من ضمن هؤلاء كان أدولف أيخمان. في 1961 اكتشف الموساد أنه يعيش في الأرجنتين باسم مستعار، بعد أن كان فرّ من أوروبا بأكملها خوفا من المحاكمة، أرسل الموساد قوة خاصة اختطفته من قلب بيونس آيريس ونقلته إلى إسرائيل، وقدمته للـ"محاكمة"، والمحكمة ناقشت جريمته التى تمت قبل إنشاء دولة "إسرائيل" وقبل وجود أي محاكم أو قوانين إسرائيلية من الأساس، ثم حكمت عليه بالإعدام.

وقالت المحكمة أنه حتى لو كان ما قام به هو بسبب طاعته العمياء لرؤسائه، إلا أنه كان جزءاً من الجرائم التي نفذت ضد الإنسانية، ويجب أن يعاقب على ذلك بأقصى عقوبة ممكنة، وهي الإعدام. بعدها أحرقت جثته وألقي الرماد في مياه البحر المتوسط، وتناولت وسائل الإعلام هذا الحكم تحت عنوان (عقوبة الشر أم عقوبة الشيطان).

هل كان لدى أيخمان أي شعور بالذنب أثناء عمله؟

أثناء المحاكمة قال إنه لم يكن يهمه ما الذي كان يحدث للمعتقلين اليهود! "أنا كنت أنفذ التعليمات فقط، كانت مسؤوليتى نقل بعض المواد وكنت أقوم بذلك لإرضاء رؤسائي، بغض النظر عن هذه المواد، وبغض النظر عما سيترتب على ذلك، أنا كنت أحاول أن أكون مديرا جيدا أؤدي عملي على أكمل وجه، بغض النظر عن النتائج".

لا يبدو أنه كان لديه أي مانع أخلاقي في القيام بعمله، لأنه لا فرق لديه في إذا كان ذلك سيؤدي إلى موت اليهود أو جعل حياتهم أفضل، هو فقط يؤدي المطلوب منه على أكمل وجه.
****
لنتخيل بعد سنوات قليلة، حكومة عراقية جديدة جاءت، وتريد أن تعيد بناء العراق، ومن أجل ذلك فإنها تريد أن تعالج جراح الماضي، ومنها الانتهاكات والتعذيب الذي جرى في سجن أبو غريب. أرسلت قوة خاصة قامت بملاحقة كل من شارك من الجنود الأميركيين في جرائم التعذيب في سجن أبو غريب، وأمرت المحكمة بسجنهم في السجون العراقية لمدد تتراوح بين 10 و 15 سنة، فهل سيقبل العالم وقتها كما قبل ما قامت به إسرائيل؟!
****
أبريل/نيسان 1993، وفي أثناء حرب البوسنة والهرسك أعلنت الأمم المتحدة مدينة سربينيتشا البوسنية (منطقة آمنة) وطلبت من المقاتلين المسلمين البوشناق المدافعين عن المدينة تسليم أسلحتهم، لأن قوات الأمم المتحدة هي المسؤولة عن تأمين المدينة، كان قوام قوات الأمم المتحدة 400 جندي هولندي. بعدها بأيام قليلة هجمت القوات الصربية على المدينة، جمعت كل الذكور من عمر 15 إلى 60 عاما، وهجرت باقي النساء والأطفال، وقررت القيام بعملية تصفية جماعية لكل الذكور.

اتصل الضابط الهولندي بالأمم المتحدة طالبا السماح له باستخدام القوة للدفاع عن البوسنيين العزل، لكن طلبه لم يستجب، كان البعض من المواطنين قد جاء إلى الوحدة الهولندية للاحتماء بها من بطش الصرب، لكنه التزم بالواجب القانوني المكلف به، وملتزما بالتعليمات والقوانين اتخذ قرارا بعدم الدفاع عن أهل المدينة، وتسليم المواطنين الذين احتموا بالوحدة.

الصرب قتلوا في هذه المذبحة 8 آلاف شخص فقط، في أكبر مذبحة تشهدها أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية على أراضيها، وأين كانت المذبحة، في وسط أوروبا.

كانت هذه المذبحة وغيرها دافعا للولايات المتحدة لأن تتدخل، لكن مجلس الأمن لم يكن ليوافق على التدخل العسكري، لأن روسيا كانت ستستخدم حق الفيتو لمنع صدور أي قرار يسمح بالتدخل العسكري، فقررت الولايات المتحدة استخدام قوات الناتو والقيام بضربات جوية، فيما بعد قال رئيس الوزراء السويدي إن هذا التدخل كان يجب أن يتم لحماية المدنيين، ورغم أن هذا التدخل العسكري لم يكن سليما من الناحية القانونية، إلا أنه كان واجبا من الناحية الأخلاقية!

فيما بعد، أصدرت محكمة هولندية في عام 2014 حكما بإدانة الضابط الهولندي (مدنيا) لعدم حمايته الـ300 بوسني الذين لاذوا بحمايته في وحدته، لكنها لم تحمّل القوات الهولندية التابعة للأمم المتحدة أي مسؤولية تحت زعم أن تدخلهم لم يكن ليمنع الجريمة، وأن الأمم المتحدة هي التى تتحمل المسؤولية، لكن لا يمكن مقاضاتها قانونيا!

السؤال الآن: إذا كان التدخل العسكري واجبا من الناحية الأخلاقية، حتى لو لم يكن سليما قانونا، فلماذا لم تحاكم القوات الهولندية التابعة للأمم المتحدة عن عدم حمايتها للمدنيين، لأن ذلك يتوجب عليها أخلاقيا حتى لو كان غير جائز قانونا؟!
****
هل يمكن أن يأتي زمان يحاكم فيه أحد قادة المجلس العسكري المصري المسؤول عن تأمين ميدان التحرير خلال ثورة يناير عن عدم حماية المدنيين في معركة الجمل من بطش البلطجية، حتى لو لم يصدر له أمر بهذا، لأن هذا واجب أخلاقي عليه، ولأنه كان سيمنع وقوع ضحايا، حتى لو لم تصدر له الأوامر بذلك؟

والضابط الذي قيل له (جدع يا باشا) بعد أن أطلق النار على عيون المتظاهرين فأصابهم، وضباط عربية الترحيلات الذين تمت تبرئتهم من جريمة قتل 37 سجينا، وخرجوا من المحكمة مبتسمين بعد أن برأتهم من تهمة القتل؟!

****

"حضرتك مش بعيد عن المساءلة القانونية، ومش هينفع حضرتك ساعتها إنك تقول أنا كنت بنفذ الأوامر، وتذكر أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق". كان هذا هو تعليق يسري فودة على ضابط الأمن المركزي الذي استضافه على الهواء مباشرة أثناء أحداث محمد محمود، ليلة 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2011 في برنامج "آخر كلام"، بعد أن شرح الضابط أنه في حالات الشغب العام يمكن له أن يستخدم الغاز ثم الخرطوش ثم الرصاص الحي طبقا للقانون، ورغم أن يسري فودة لم يقل مثل هذا الكلام بعد مذبحة رابعة العدوية، رغم أنها كانت أكثر دموية، إلا أن منطق الجملة ما زال سليما.

ضابط الأمن المركزي الذي يخرج يوميا لفض المظاهرات، مستخدما الرصاص الحي لتفريق المتظاهرين طبقا لقانون التظاهر الجديد. الضباط الذين شاركوا في التخطيط والتنفيذ في فض اعتصامي رابعة والنهضة طاعة لأوامر القادة وتنفيذا للقانون. وكيل النيابة الذي يصدر أوامر بتجديد حبس أناس يعلم أن لا ذنب لهم، تنفيذا للقانون، والقاضي الذي يصدر أحكاما بالحبس بحق أناس لا يعلم يقينا أنهم شاركوا في أي جريمة.

كل هؤلاء لديهم نفس منطق الجندي النازي الغلبان أثناء محاكمته.. أنا كنت أنفذ الأوامر، وأطبق القانون!


(مصر)

المساهمون