شيئاً فشيئاً، يتأسس علم سياسي جديد في الجزائر وصحافة جديدة أيضاً. يبحث العلم الجديد في دبلوماسية الجنائز، ويقيس مستويات السلوك السياسي للمسؤولين والسياسيين والشخصيات العامة في الجنازات ودلالاتها خلال تشييع الجنازات. وتشتغل صحافة المقابر على تحليل وتأويل كل لقاء هامشي أو كلمة عابرة أو ضحكة متماهية، وتفسر كل تفاصيل المشهد الجنائزي.
ولمناسبة جنازة رئيس الحكومة الجزائري الأسبق، وعضو وفد مفاوضات استقلال الجزائر، رضا مالك، اشتغل علم الجنائز على تفسير ملامح الصراع في هرم السلطة، وحدود وتقسيمات أجنحة الحكم في البلد، وتباين الكتل السياسية، قبل عام ونصف العام على الرئاسيات المقبلة. واشتغلت الصحافة على تحليل سيميائي لعبوس رئيس الحكومة، عبد المجيد تبون، وعزلته في المجتمع الجنائزي، ومعنى انحياز وملازمة سعيد بوتفليقة، شقيق الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، لزعيم "الكارتل" المالي، علي حداد، وقهقهتهما عالياً على حساب رئيس الحكومة، بعد أسبوعين من حرب الأخير على "الكارتل" المالي، ودلالات مرافقة البروتوكول الشخصي لبوتفليقة لشقيق الرئيس، بل وأسس عليه بعضهم قراءات على أنها مؤشرات مشروع الرئيس المقبل في ربيع العام 2019.
في الجزائر لم يعد الإعلام يتعامل مع الجنائز كجنازة ميت، ومع المقبرة كمقبرة لها حرمة وآداب، لكن الصحافة الجزائرية باتت تتأهب بالصوت والصورة لتغطية الجنازات، كلما تعلق الأمر بجنازة شخصية سياسية أو عامة، وتحضر الكاميرات والمصورين والصحافيين كما لو كان الأمر يتعلق بنقل فعاليات مؤتمر حاسم أو نهائي كأس، ويتم تحليل كل معطى في الجنازة، من حضر ومن غاب وخلفيات ذلك، من ضحك ومن عبس، من تحادث مع من ومن تحاشى الآخر، ومن بقي على الهامش، ومن كان محور الجنازة ونجمها. نعم في الجزائر أصبح لكل جنازة نجم يخطف الأضواء، كشقيق الرئيس بوتفليقة الذي أصبح في الفترة الأخيرة نجم الجنائز بامتياز.
تمسك النظام السياسي في الجزائر بحالة الالتباس والتلبس بالغموض على مستوى المركز، هو ما يدفع الصحافة والمحللين إلى تتبع الهامش السياسي في المقابر والجنازات، ومحاولة فهم كل سلوك يمكن أن يمثل بالنسبة إليهم رسالة ذات بعد سياسي، أو كلمة ذات دلالة، أو ضحكة ذات معنى، أو لقاء عابراً يمكن أن تتأسس عليه مواقف وقراءات. ففي غياب أية أطر ونوافذ لفهم الأوضاع السياسية وتقدير المآلات في الجزائر، أصبحت المقابر هي المجمع الوحيد الذي تتجلى فيه بعض التفاصيل في علاقة أصدقاء، أو فرقاء السياسة والمال والثقافة والرياضة وغيرها، وتنفخ بالونات الاختبار السياسي عند حدود الموتى والقبور. وقريباً قد يتأسس في الجامعات قسم دبلوماسية الجنائز، وتضيف كليات الإعلام تخصص صحافة المقابر.