الجزائر: حسابات الجيش ترهن الحل السياسي

29 ابريل 2019
وجه الشارع رسائل غاضبة ومباشرة لقايد صالح (العربي الجديد)
+ الخط -

يعيد الجيش الجزائري إجراء تقييم للوضع الراهن في البلاد، وصياغة تقدير موقف سياسي جديد في ظل الوضع المتأزم وضرورات التوجّه إلى حل سياسي، تدفع إليه قوى المعارضة والحراك الشعبي، ومطالبتها برفع يده عن رئيس الدولة عبد القادر بن صالح ورئيس الحكومة نور الدين بدوي، بعد استحالة أداء الحكومة لمهامها وإغلاق أي إمكانية لإجراء الانتخابات في موعدها المقرر في الرابع من يوليو/تموز المقبل، وبعد النجاح النسبي في تطهير المشهد من "الكارتل" المالي وعزل رجالات الرئيس المخلوع عبد العزيز بوتفليقة.

وتعبُر الجزائر أسبوعاً سياسياً حاسماً، بعد توجيه الشارع رسائل غاضبة ومباشرة في مسيرات الجمعة العاشرة إلى قائد أركان الجيش الفريق أحمد قايد صالح، وتحميله مسؤولية استمرار نفس رموز نظام بوتفليقة في الحكم، كرئيس الدولة عبد القادر بن صالح ورئيس الحكومة نور الدين بدوي. وأظهرت مواقف الشارع وصول الخيارات السياسية بين الجيش والحراك الشعبي إلى نقطة تصادم. ففيما يبدي الحراك استعجالاً لذهاب رموز نظام بوتفليقة، والدخول في مرحلة انتقالية، يبدي الجيش بطئاً لافتاً في الدفع إلى هكذا خيار. وزاد خطاب قائد أركان الجيش، الثلاثاء الماضي، والذي جدد فيه تمسكه بالحل الدستوري الذي يبقي بن صالح رئيساً للدولة، ودفاعه عن حكومة بدوي، ووصفه ملاحقة المتظاهرين للوزراء خلال زياراتهم للمناطق بالسلوك غير المقبول، وتمسكه بالانتخابات الرئاسية المقررة في الرابع من يوليو، من قلق الشارع والقوى السياسية، ما دفع الجيش إلى التراجع وتقديم توضيحات بشأن مواقفه وإعلانه قبول حلول سياسية تقترحها المعارضة.

لكن هذا التراجع، الذي يفتح الباب واسعاً أمام توافقات محتملة بين الجيش والمعارضة والحراك الشعبي حول حل سياسي توافقي، لا يلغي تحذيرات سياسية من أن يكون الجيش قد استُدرج، بفعل الفراغ السياسي بعد استقالة بوتفليقة، إلى فخ العملية السياسية، والإلقاء بثقله في المشهد لتحمّل أعباء مواقف يظهر فيها كالحاكم الرئيسي، على نقيض مواقف وتصريحات سابقة لقايد صالح، كان يشدد فيها على ابتعاد الجيش وعدم تدخّله في الشأن السياسي، وهو ما دفع بالناشط السياسي المعارض كريم طابو إلى توجيه رسالة، وصفت بالقاسية، إلى قائد أركان الجيش، حمّله فيها مسؤولية الانسداد السياسي الحاصل، وحماية رموز نظام بوتفليقة، والتمسك بمضمون دستور لا يحل الأزمة، ومنع الذهاب إلى حل سياسي ومحاولة فرض خيارات لا يتوافق معها الحراك الشعبي.

لا يبدي الجيش الجزائري تمسكاً ببن صالح وبدوي، كونه يعتقد أنهما الحلقة الأضعف، إذ كانا مجرد موظفين ولا يملكان أية أدوات للتأثير في المشهد، وأنهما شخصيتان تطبّقان أوامر أي سلطة فعلية، مقارنة مع رجالات "الكارتل" المالي وصنّاع القرار خلف الستار، المطالبين بالملاحقات القضائية وحملة مكافحة الفساد القائمة في البلاد. غير أن محاولة فهم مواقف الجيش من العملية السياسية تستدعي معطيات أخرى والدخول إلى العقل العسكري. ويؤسس الجيش مواقفه وتقديراته وتمسكه بالخيار الدستوري والانتخابات على أربعة معطيات رئيسية. ويتخوّف الجيش من أن يفتح الذهاب إلى فترة انتقالية الباب واسعاً أمام مرحلة طويلة، يجد فيها نفسه في وضع عليه تحمّل أعباءها بشكل كامل، مقارنة مع الحل الدستوري الذي يحدد فترة 90 يوماً تُنظم خلالها انتخابات رئاسية. كما يعتقد الجيش أن تباين وصراع المواقف بين قوى المعارضة والحراك الشعبي، وافتقادهما لتصوّر سياسي واضح لتسيير المرحلة الانتقالية، لا يشجعه على الاستسلام لمقترحات الخروج عن الدستور. وثالث العوامل، اقتناع المؤسسة العسكرية أن أي حل سياسي في وضع جزائري ملغم، قبل تطهير المشهد وقطع يد "الكارتل" المالي واللوبي المرتبط بنظام بوتفليقة، وهو ما ظهر بوضوح عقب حملة الاعتقالات لرجال الأعمال وملاحقة مسؤولين في نظام الرئيس المخلوع، يدفع إلى مخاطر الفوضى. ويأتي العامل الخارجي مؤثراً في تفكير الجيش الجزائري، الذي لا يرغب أن يظهر على الصعيد الخارجي جيشاً انقلابياً وغير دستوري.



لكن محللين سياسيين يعتقدون أن هناك عوامل أخرى تتعلق بصراع في أعلى هرم السلطة، ومواجهة الجيش لتعقيدات الوضع الداخلي. وفي السياق، رأى المحلل والأستاذ الجامعي بوجمعة رضوان أن هناك توازنات معقّدة تحكم موقف وقرارات الجيش. وقال، في تصريح لـ"العربي الجديد"، "أعتقد أن الأمر مرتبط بالتوازنات بين العصب المختلفة لمنظومة الحكم، ومن المحتمل أن قيادة الأركان لا تريد الدفع باستقالة هؤلاء قبل أن تنضج مبادرة واضحة المعالم تكون غير مكلفة كثيراً للمنظومة". لكنه أشار إلى أن الجيش قد يكون بصدد الاقتناع أنه لم يعد "لبدوي وبن صالح أي دور، ولذلك أنا مقتنع أنهما سيكونان في حكم الماضي قريباً"، لافتاً إلى أن "ترتيب البيت يحتاج إلى وقت ومرافقة من السلطة والمعارضة والمجتمع المدني".

وفي السياق نفسه، رأى الباحث يحيى بوزيدي أن فهم موقف الجيش "يمكن استخلاصه على ضوء رسائل قيادة الأركان وسلسلة الإقالات، وأيضاً ملفات الفساد التي فُتحت، ما يحيل إلى عدة قراءات أو احتمالات، يتمثل أهمها في إدراك المؤسسة العسكرية لخطورة الخروج عن الدستور، وما قد ينجر عن المرحلة الانتقالية من عدم استقرار سياسي بسبب عدم إمكانية حسم الخلافات خارج الإطار الدستوري". واعتبر بوزيدي، في حديث لـ"العربي الجديد"، أنه لا يوجد ما يدفع الجيش إلى استعجال الحل السياسي. وقال إن "مواقف الجيش السابقة مرتبطة بما يجري من مناورات داخل أجنحة السلطة أكثر منها استجابة للمطالب الشعبية. وما دامت القوى الأخرى في حالة ضعف، ولم تبادر إلى أعمال خطيرة تدفع نحو حالة عدم استقرار، فإن المؤسسة العسكرية ليست مستعجلة، من وجهة نظري، في الاستجابة للمطالب الشعبية الواضحة منذ أسابيع، والتي تأكدت مرتين على الأقل، حين كانت ترفض خطابات قيادة الأركان التي تؤكد التمسك برئيس الدولة والحكومة".

وطرح بوزيدي "قراءة أخرى تشير إلى أن الأجنحة الأخرى داخل السلطة المعارضة للجيش هي التي تحول دون ذهاب بدوي وبن صالح، وهي من وضعت هذا المأزق أمام الجيش لكبح استبعادها النهائي من السلطة، غير أن هذا الأمر مستبعد، ما دامت المؤسسة العسكرية استطاعت إزاحة الولاية الخامسة لبوتفليقة فلا صعوبات أمامها". ولفت إلى "قراءة أخرى تذهب إلى أن قيادة الأركان تسعى لإضعاف القوى الأخرى خصوصاً رئيس جهاز الاستخبارات السابق، من خلال تقليم أذرعه المالية وحتى داخل مؤسسة الجيش من رؤساء المناطق السابقين، وأن الوضع الحالي يسمح لها بذلك، كون رئيسي الدولة والحكومة في حالة ضعيفة ولا يستطيعان تشكيل خطر عليها، ولاحقاً يمكن أن تستغني عنهما"، مشيراً إلى وجود احتمال أن "تكون المؤسسة العسكرية تحاول ترتيب الأوضاع بما يسمح بتقديم مرشح موضع قبول شعبي وفي الوقت نفسه لا يتعارض مع المؤسسة، لأنه حتى الآن لا يوجد مرشح يمكن التعويل عليه في الانتخابات بتوقيتها المبرمج حالياً".