من يصدق أنّ ما يحدث في الجزائر، حالياً، هو نتاج قمع وتسلّط نظام شارك الجميع، تقريباً، في صناعته وتجذّره في تفاصيل الحياة اليومية والاستفادة منه بطريقة أو بأخرى؟ شاركنا في صناعة ماضيه وحاضره ومستقبله بالتواطؤ أو التخاذل، بالصمت أو الولاء، بالمحاباة أو العزوف حتى عن الاحتجاج على ما يقوم به عن طواعية أو إكراه، شاركناه في كل شيء كنخب وساسة وعسكر وصحافيّين وعلماء ورجال دين وفنانين وأشخاص بسطاء.
عاش البعض وتنعّم بالرفاه والثراء، واستفاد منه بالذكاء أو بالخبث أو بالمكر، عن حق أو بالباطل، والبعض ذاق الفقر والغبن والقهر والمعيشة المرّة وهو الذي نجا من الأشباح والكوابيس والظلال المخيفة للموت والإرهاب طيلة عشرية كاملة. لم يكن لأي أحد أن ينجو منها هكذا بلمح البصر لولا رجال قدر لهم أن يكونوا في مستوى المسؤوليات التي أنيطت بهم في مفصل تاريخي قاتل ومدمر وخطير كالذي مرت به البلاد، ليجد نفسه في نهاية الأمر يعاني شظف العيش ومحن الحياة القاسية.
من المؤكد أن الواقع الجزائري اليوم متهالك ومريض وبائس ويائس وقانط ورافض، فمنذ وقت قصير، اعتقد البعض أن الحل يكمن في الديمقراطية والحرية، وأنهما الضامن للعيش الكريم والمستقبل الزاهر.. بينما قال آخرون إن الجزائري، وبعيداً عن الغوغائية والشعبوية وتنميطات الساسة وإعلاميي ما وراء البحار، يريد مسكناً وعملاً محترماً يحفظ له الكرامة والراحة والهناء وسط أهله وأصدقائه.
بالمقابل، حكمت باسمه سلطة معقّدة (من التعقيد)، اختلط فيها السياسي بالعسكري وأصحاب المال وعشائر ثقافية وملل إعلامية ودوائر نفوذ خارجية هادنت أساليب حكمها ونظرتها السياسية إلى الأمور وفق ما تقتضيه المصالح والأحوال، وروجت لخطاباتها وكل ما تقوم به بالتطبيل والمحاباة والعشائرية والزبائنية لترضي هذا وتبتز ذاك، وتحتكر وتعطي لمن تشاء وقت ما تشاء وتنزع أيضاً ما تشاء وقت ما تشاء، وتخوّن كل خارج عنها أو من لا يدخل في زمرتها.. وكان المآل أن نشأ نظام هذه السلطة وقام وتعاظم على هكذا أرضية مفاهيم ورؤى، وأصبح جزءاً من منظومات الحياة العامة.
■ ■ ■
اليوم، ونحن نشهد هذا الحراك، سواء أكان عفوياً أو منظماً أو مرتبطاً بأجندات داخلية وخارجية، والذي يتبلور في شكل احتجاجات مختلفة ومتباينة ومتناقضة المطالب، يتصاعد سقفها حيناً ويخفت حيناً، تكون جادة مرات وفي مرات أخرى عبثية وغير معقولة، مطالب تتراوح في قيمتها بين من هم في الشارع ومن هم في الكواليس ومن هم في السلطة ومن هم في الأحزاب والتنظيمات ومن هم في الجامعات ومن هم في المخابر ومن هم في أقصى دوائر القرارات ومن هم في الإعلام أو في شبكات افتراضية أو من يترقبون ما سينجر عنه هذا الحراك.. الكل يناضل ويتحرك وفق شروطه الاجتماعية والثقافية. هكذا يبدو مشهد الشارع مرتبكاً يعج بالقلق والاضطراب، وما يحدث جاء نتيجة لتراكمات عسيرة طويلة أثقلته وكأن لا شيء تحقق في الجزائر سوى السراب والوهم.
■ ■ ■
هل المأزق الذي نعيشه اليوم حقاً مرتبط بالحكم أو النظام؟
ربما كان الجواب على هذا السؤال مشوشاً في الذهن، فالكل يعرف أن المجتمع الجزائري هو بلد عربي إسلامي منتم إلى العالم الثالث، مرتبط تاريخياً، وبعمق، بنمط من القيادة يطغى عليها العسكري سواء أكانت المبايعة له سرية أو علنية، وأي خروج عن هذا السياق فهو خروج مارق عن هذا الإرث القوي، ولن يُسمح لأي أحد أن يفرض أو يغير أو يزعزع أو يقترح دون أن يعود إلى هذا العصب المتين في الحكم.
ولا يخفى أيضاً عن الأعين نمط الحياة التقليدية التي تغلف المجتمع الجزائري، والتوق إلى أنسجة أخرى خارج هذا النسيج هو ضرب من الوهم الجميل قد يكون قصيراً وسرعان ما سيتيه في خضم نقاشات طويلة وصعبة، فعندما ستحين فرصة الخروج من فضاء الشارع الحالم إلى فضاء الواقع، ستبدأ معركة أخرى لا تقل ضراوة عن هذه المعركة التي خاضها الشارع منذ أكثر من شهرين في سبيل خلع هذا النظام واستبداله بنظام آخر، وها قد بدأت ملامح تجدده تلبس أقنعة هي نفسها المتوارثة مع تحسينات في الشكل والمنظر.
بعد الذي حدث وسيحدث، من يستطيع الآن، من الساسة والإعلاميين والمثقفين والنخب وحتى نشطاء هذا الحراك أو غيرهم، أن يخرج عن هذا الخيط القوي الذي يقودهم إلى فضاء العسكري والانشداد إلى المساحة الواسعة للعادي والمستهلك والنمطي المتجلي في نوعية الخطاب المروج عن ضرورة التغير دون التأسيس لهذا الأمر بآليات واضحة وعملية ودقيقة؟
سيبقى هذا الانشداد إلى هذين الطريقين هو المهيمن والمسيطر والقاعدة، والحاضر والراسخ بكل علاماته حتى في أبسط شؤون الحياة وفي كافة المجالات.
■ ■ ■
كيف يمكن أن نقرأ الجزائر اليوم وهي تتحرّك على تقاطع شارع حتى ولو نظر إليه البعض على أنه شارع جديد بأنفاس جديدة.. منظم ومتوازن ومنسجم.. يبني شرعيته على الاستعراض والرفض والنبذ؟ كيف نفهم رمزية اختيار يوم الجمعة للحراك دون غيره من الأيام ونحن نعي وندرك حجم قداسته في مخيال المجتمع؟ وكيف نفهم هذه الدعوات الغامضة المتسربة التي بدأت تظهر للعيان بصمت قوي.. دعوات شعارها يَخرج من الأعلام التي ترفرف هنا وهناك بجنب العلم الوطني؟
بل من يقود هذا الحراك والكل يقول أنا الذي أقود الحراك.. كائنات "فيسبوكية" تمتد كالأخطبوط في هذا الحيز الأزرق وتدعي أنها هي من يسيّر وهي من يحرك ويقرر ويدفع بالأمور إلى ما يرغب فيه المجتمع.. كائنات مهلهلة أصبحت فجأة المرجع والسند، حتى ولو كانت لا تملك أي مرجعية أو ثقل أيديولوجي أو معرفي، وبات من العسير تبيان الحقيقة من الكذب في هذا الفضاء.
من يستطيع أن يقدم تفسيراً واقعياً للزخم والقوة والشحن التي يمتلكها الحراك عندما ينطلق مباشرة بعد صلاة الجمعة حيث الحشد الكبير من الجماهير، وطالما أن معرفة حجم وأعداد الجماهير التي تخرج في هذا اليوم عن غيره من الأيام قد تُحدث فرقاً واضحاً للعيان داخل المشهد، فإن نقاط استفهام عديدة يمكن طرحها خاصة وأن بعض التحاليل تقول إن التيار الإسلامي بدأ يتموقع بشكل ذكي خلال الجمعتين الماضيتين، مما يعني أن الانتقال إلى جمهورية أخرى على رأي المتفائلين أو إلى عالم جديد مدني متطور حداثي سيبدو عسيراً جداً أو كسراب يطارده الأكثر استقلالاً بيننا، ومنذراً بالكثير من المواجهات.
■ ■ ■
كيف يمكن أن نحوّل الشارع إلى "خريطة طريق" تبتعد قدر الإمكان عن جميع القوى التي سيطرت وتربّعت على المشهد من الآباء المؤسسين إلى كل أركان النظام وتوابعه وأذياله ومريديه وعرابيه ومستفيديه، وصولاً إلى هؤلاء الذين رافقوا المشهد بداية من التسعينيات إلى غاية اللحظة.
لقد فشل الجميع في توكيد الحضور والتأثير كنخب فاعلة وحقيقية في تطوير المجتمع والارتقاء بوعيه وسلوكاته تجاه الأحداث. لم يتم تحسين رؤيته إلى حاضره ومستقبله بعيون واسعة وصافية، جل ما حدث هو الزج به في أتون العطالة واليأس من كل شيء والولاء الأعمى، وتربية أذنه على الإصغاء إلى صوت الإقصاء والريبة من المختلف والمتعدد، ونظر إلى الآخر على أنه عدو ومنبوذ وخطير على الهوية والثوابت والقيم.
من بذور تتفيه هذا الشارع ودخوله في العبث والكسل والملل والإحباط ظهور ملامح الانحراف وتدوير نفس الوجوه، والتي دوماً تجد نفسها مثلما فعلت على طول سنوات مديدة من عمر الجزائر، في المقدمة والمؤخرة وفي الوسط وفي كل الاتجاهات.
بوجود هؤلاء سيغدو الشارع مهدداً بأن يتحول إلى مسرح يتسلّى فيه البعض إن في قنواته أو في أجهزة هواتفهم النقالة أو في فضاء النت؛ حيث تحول هذا الأخير إلى منصات تطيح بهذا وتبرز ذاك وتفضح هذا وتقدم هذا كرمز وهذا كعميل وهذا كفاسد وهذا كمعلم وهذا كنظيف، سيُنظر إلى الشارع كواجهة للغضب ومتنفس للعب ومضيعة للوقت وهدر للمال والإمكانيات، أو قد يُستغل من طرف البعض في التشويش على لحظة مهمة من عمر هؤلاء الشباب الذين يتطلعون إلى كتابة صفحة جديدة من تاريخ الجزائر، وقد يتم الالتفاف بمكر حول مطالبه وتحويلها إلى مطالب عبثية وغير معقولة ومجرد لهو إعلامي تتقاذفه الأفواه من هذا إلى ذاك.
■ ■ ■
المفارقة أن هذا الحراك تتجاذبه فكرة الاستمرار والتغير ثم البديل، استمرار مقنن، وتغير منشود وبديل تائه يتخبط ويبحث عن وجوه أخرى لم تتلوث أو تتعفن ولم تكبر عاتية في الذهن.
استمرار باسم المحافظة على المكتسب، وتغير باسم الخروج على نظام مستهلك وفاسد، وبديل يحمل صفة التجديد بدون أفق واضح في الرؤية.
كيف يطلع من هذا الحراك الشبابي بديل آخر غير مأزوم بأسئلة الهوية واللغة والدين والتاريخ والماضي، يرفع نفسه عن خطابات تقليدية غدت ترفاً فكرياً مغشوشاً و"لوكوموتيف" قديماً صدئ وتكلس، نيرانها باهتة لا تشحذ الهمم وتذكيها، بديل لا يفكر في الحيرة ولا يتلبس بأوهام التحديث وأساطير الدولة الوطنية والثورة والشهداء.. بديل يصطدم بالمستقبل المؤسس على روابط جديدة وعلائق وأرضيات وسماوات وقيم جديدة وحقوق وواجبات أخرى وأنوار تتشكل من رحم العقل والحرية في الفعل وليس الحرية في الكلام والتعبير و"الهدرة" التي لا تسمن ولا تغني من جوع.. بديل يعترض ويقاوم بقوة من يسلب منه أحلامه، حتى ولو كانت أحلاماً لا تتعدى بيتاً وعملاً.. بديل يفك رباطه نهائياً مع قبعة العسكري التقليدي والسياسي المستهلك والمثقف الذي يترقب ولا يخوض ولا يثور عقله بالخيال.. بديل يتطلع للنبل والعدالة وديمقراطية لا تتركه يبيت جائعاً أو في العراء..
بديل بمشاريع واضحة المعالم تمس مناحي الحياة العامة من السياسة والاقتصاد، إلى التربية والتعليم والثقافة والفنون، بديل ترافقه المرأة لا بوصفها أنثى مطيعة خانعة مستسلمة، بل بوصفها إنسانة بحقوق وواجبات تنشد حريتها من حرية الرجل.. بديل يفكك كل امتثال ليكون المثال.. بديل يقف ويتماهى مع الوطن بلا حدود تعزله ولا جدران تفصله بين الفوق ولا التحت.. بديل يؤسس ارتباطه ورباطه الذي يشده وسيشده إلى مساحات أوسع للحرية الحقانية تـُملي عليه ما يفعل وما لا يفعل.. بديل معركته الحقيقية هي مع هذا المستقبل القادم المخيف الزاحف الذي يحتاج إلى عقول كبيرة كبر الأرض.
■ ■ ■
في ظل ما يحدث اليوم في الجزائر، يخوض الشارع معركة أخرى مدججة بالكثير من الأحلام وأيضاً بالكثير من الأوهام.. أحلام تحتل كل رقعة من روح الإنسان الجزائري للظفر ببهجة بسيطة في حياته.. وأوهام تبحث عن مخارج للتدفق في نهر ينذر بالطوفان أو بنيران قد تحرق الآتي أو بزوال العمى نهائياً عن الرؤية ليرى الجزائري نفسه بشكل صحيح، حتى لا تُسرق منه لحظته التواقة للمستقبل.
* كاتب من الجزائر