الجزائر: إعادة تموضع دبلوماسي تحت ضغط الأزمة الليبية

15 يناير 2020
قررت الجزائر دخول مربع الأزمة الليبية (فاروق بطيش/الأناضول)
+ الخط -
وفّرت الأزمة الليبية فرصةً ثمينةً للسلطة السياسية الجديدة في الجزائر، والرئيس عبد المجيد تبون، لإعادة تمركز هذا البلد وسط المشهد الإقليمي، وفي أزمات المنطقة. وفيما أكدت الرئاسة الجزائرية أمس الثلاثاء أن تبون سيشارك في مؤتمر برلين الليبي بدأ وزير الخارجية صبري بوقادوم جولة تشمل السعودية والإمارات لبحث الأزمة الليبية، وحث الدولتين على السعي لتثبيت نهائي لوقف إطلاق النار. ساعد تزامن سلسلة زياراتٍ لدبلوماسيين ومسؤولين من ليبيا وتركيا ومصر وإيطاليا، مع قبول أطراف الأزمة في ليبيا بقرار وقف إطلاق النار من دون التوقيع على الاتفاق النهائي بعد، في بروز دورٍ جديد للدبلوماسية الجزائرية، بعد فترة غياب.

وبقدر ما ساد الاحتفاء السياسي والإعلامي الداخلي بإسهام الجزائر، بشكلٍ أو بآخر، في تفعيل المرحلة الأولى من مسار الحلّ السياسي الليبي، عبر إقرار طرفي الأزمة بوقف لإطلاق النار منذ منتصف ليل 12 يناير/كانون الثاني الحالي، طرحت جملة تساؤلات حول الدور الذي يتعين أن تؤديه الجزائر في الأزمة الليبية، والأدوات التي تملكها لتحقيق سلام واستقرار كامل في هذا البلد، يحفظ وحدته بالأساس ويثبت المؤسسات الرسمية للدولة، ويمنع التدخلات الأجنبية التي يغذيها تضارب المصالح. وتأتي هذه التساؤلات بعد غيابٍ دبلوماسي للجزائر في الفترة الماضية، نتيجة الظروف الداخلية، والتي يعزوها مراقبون إلى غياب رئيسٍ للجمهورية الجزائرية، والذي يعتبر الموجّه للسياسة الخارجية. وكان مرض الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة منذ العام 2013 وحتى استقالته في العام 2019، صبّ في صالح دول إقليمية أخرى استغلت هذه الثغرة، كمصر ودولٍ من خارج منطقة شمال أفريقيا، كالإمارات وفرنسا.

وشكّلت الأزمة الليبية أكثر الهواجس التي شغلت بال القيادتين السياسية والعسكرية في الجزائر، خصوصاً على صعيد انعكاساتها الأمنية، إذ ترتبط الجزائر مع ليببا بحدود برّية تصل إلى 900 كيلومتر. ومنذ شهرين، ترجمت المخاوف الجزائرية في نقل وتعزيز القوات المرابطة على الحدود مع ليبيا، وتعزيز الطلعات الجوية لمراقبة الحدود، وفي تخصيص أول اجتماع لمجلس الأمن القومي في الجزائر برئاسة الرئيس عبد المجيد تبون لأزمة ليبيا، ثم للأزمة في دولة مالي بدرجة ثانية. وكان واضحاً منذ أول خطاب لتبون ألقاه خلال تنصيبه في 19 ديسمبر/كانون الأول الماضي، أن الجزائر لن تقبل باستبعادها من أي من مسارات حل الأزمة الليبية، وأنه يجب أن تكون شريكة في أي مسار دولي وإقليمي. وقررت الجزائر دخول مربع الأزمة الليبية، لغايتين، الأولى دفاعاً عن مصالحها الأمنية والسياسية، خصوصاً أن الأزمة كانت تتجه لأن تتحول إلى اقتتال وحضور عسكري أجنبي في البلد المجاور، وهو أمر بالغ الخطر، يشكل قلقاً للجزائر، لما يمكن أن يخلفه من توترات أمنية واستدراج للمجموعات المسلحة وتنشيط لممرات تهريب السلاح، والثاني لكون ليبيا الممر الأنسب للجزائر لإعادة ملء الفراغ الدبلوماسي والتموقع مجدداً في المشهد الإقليمي، وأداء دور يليق بالثقل السياسي والجغرافي للبلد.


وإذا كان وقف إطلاق النار في ليبيا قد دفع المؤسسة الرسمية في الجزائر، كما في الجارة تونس، إلى تنفس الصعداء، وتلافي التداعيات المريرة للحرب، فإن السلطة السياسية في الجزائر لم تكن لتضيع هذه الفرصة لمحاولة إبراز إسهامٍ جزائري في المُنجز المتوصل إليه في ليبيا. وكان واضحاً أن احتفاء الإعلام الرسمي والمستقل في الجزائر بدور هذا البلد في المرحلة الراهنة لحلّ أزمة ليبيا، يصب في منحى وضع هذا المنجز في صالح السلطة الجديدة، واعتبار أن عودة الجزائر إلى المشهد الإقليمي، هي أيضاً إحدى ثمرات فكّ أزمة شرعية الرئاسة، وإجراء الانتخابات الرئاسية في 12 ديسمبر/كانون الأول الماضي.

ويعتقد الباحث في الشؤون السياسية، عمار سيغة، في تصريحٍ لـ"العربي الجديد"، أنه "بحكم المبدأ الراسخ في العقيدة الدبلوماسية الجزائرية، والقائم على حلّ النزاعات بالطرق السلمية، سيكون بطبيعة الحال لهذا البلد دورٌ في حلحلة الملف الليبي، لا سيما أن الجزائر بدأت تستعيد عافيتها داخلياً، وباتت قرارات الرئاسة ومواقفها تعكس وضعها كقارئ جيد للوضع في ليبيا، وهو ما يمكن تفسيره بأن الرئيس تبون محاط بمجموعة من المطلعين على الملف الليبي جيداً".

ويرى سيغة أن عودة الجزائر لأداء دورٍ في الأزمة الليبية وفّرت لألمانيا وإيطاليا حليفاً سياسياً لمواجهة الدور الفرنسي. ويوضح الباحث الجزائري أن انخراط بلاده في الملف "ساعد في بروز خطّ ثالث غير معلن يضع الجزائر وألمانيا وإيطاليا في موقع أداء دور في حلحلة الأزمة في أسرع مدة وبأخف الاضرار، في مقابل حلف حكومة (الوفاق برئاسة فائز) السراج وتركيا من جهة، وروسيا ومصر والإمارات ومليشيات خليفة حفتر من جهة أخرى". وبرأيه فإن "لقاء برلين (الليبي) لن يستغني عن دور الجزائر في مهمة إحلال السلام في ليبيا لسببين، الأول هو فرصة ألمانيا لكسب الجانب الجزائري ومحاولة جعله ليس حليفاً في راهن ليبيا فحسب، بل حليف مستقبلي، لا سيما في الجانب الاقتصادي، أما السبب الثاني فيعود إلى تراجع دور العنصر التقليدي في الأزمات الأفريقية ودخول إيطاليا على الخط، أخذاً بالاعتبار التشنج السابق للعلاقات الفرنسية -الإيطالية بعد تصريحات أدلى بها نائب رئيس الحكومة الإيطالي لويجي دي مايو حول تورط باريس في نهب ثروات الشعوب الأفريقية، والاستفادة من الأنظمة الموالية لها لاستغلال تلك الثروات لصالحها".

وتفرض التطورات السياسية واتضاح الأطراف الفاعلة في الصراع الليبي ومن يقف خلفها، وكذا المتغيرات التي سيخلقها قرار وقف إطلاق النار وبدء المسار التفاوضي، تحولاً للدور الجزائري، لفرض حزمة شروط دفاعاً عن شرعية المؤسسات في ليبيا، لكن ذلك يستدعي أن تملك الجزائر أدوات الضغط اللازمة، التي من شأنها التأثير في مسارات الحل وضمان تنفيذها. ويعتقد أستاذ العلوم السياسية في جامعة ورقلة جنوبي الجزائر، مبروك كاحي، أن الجزائر، تملك إضافة إلى العامل الجغرافي، بعض الأدوات التي يمكن توظيفها لترقية دورها في الأزمة، لعل أبرزها توافق الرؤية الجزائرية - التونسية ومواقف البلدين الموحدة عبر التاريخ بما يشكل نصف الحلّ الليبي، إضافة إلى أن عدداً من قيادات النظام الليبي السابق، بعضها موجود بالجزائر، وحتى باقي القيادات التي لا تتواجد في هذا البلد تقدر المواقف والآراء الجزائرية. ويضيف كاحي أن هناك عاملاً مهماً يتعلق بـ"قيادات القبائل الجنوبية الغربية في ليبيا، لا سيما الطوارق، التي ترتكز على الدور الجزائري، وتتعاطى مع الجزائر بشكل إيجابي، خصوصاً لما يوفره هذا البلد من تموين مستمر ومساعدات إنسانية".

ويضاف إلى العوامل المساعدة على ترقية دور الجزائر في الأزمة الليبية، وقوفها على مسافة واحدة من كل أطراف الصراع، حيث استقبلت الأسبوع الماضي وفداً من حكومة "الوفاق" الليبية (المعترف بها دولياً) ووفداً من حكومة طبرق (المؤيدة لحفتر)، مع عدم تورطها في ما يمكن أن يكون محل تحفظ لدى أي من الأطراف، وعدم وجود مطامع سياسية وأمنية واقتصادية للجزائر في ليبيا مقارنة بباقي المتدخلين الأجانب. هذا العامل يجعل من الجزائر الطرف الإقليمي الأكثر قدرة على أداء دور الضامن لأي اتفاقيات بين أطراف الأزمة الليبية مستقبلاً. وبقدر ما ينطوي تموقع الجزائر على حل الأزمة الليبية، فإن جملة تصريحات الرئيس الجديد تبون، سواءً في ما له علاقة بالأزمة في ليبيا، أو في ما له علاقة بمجمل أداء الدبلوماسية الجزائرية مستقبلاً في كل أزمات المنطقة، تؤشر على توجه نحو رسم خط بقاء للدبلوماسية الجزائرية في المنطقة، ونحو إعادة فتح ملف الأزمة في شمال مالي والنيجر، وتعزيز الموقف الداخلي في تونس، لاستبعاد الدورين الفرنسي والإماراتي (أبوظبي تشارك في تمويل قوة 5 زائد 5 في الساحل)، والذي ترى فيه الجزائر، بدون تسميته، دوراً عابثاً بمصالح شعوب المنطقة، أو هكذا يقول الخطاب الرسمي الجديد في الجزائر.

المساهمون