الجزائرية الأولى في الطريق إلى البيت

07 فبراير 2015
(تصوير: جوناثان مولر)
+ الخط -

أخيراً، عادت الروائية الجزائرية آسيا جبار إلى "مكان ما من بيت أبيها"، وهو عنوان سيرتها الروائية الصادرة عام 2007، لكن إلى مقبرة العائلة، لا إلى هذا البيت الذي رأت فيه النور أول مرة عام 1936.

لم تكن البيئة التي ولدت فيها فاطمة الزهراء إماليان، جبل شنوة غرب الجزائر العاصمة، والذي استحضرته في فيلمها الطويل "نوبة نساء جبل شنوة" عام 1978، تُساعد على انخراط المرأة في نشاط ثقافي وفني، سواء من ناحية الإجراءات الاستعمارية التي كانت تنظر إلى الجزائريين باعتبارهم مواطنين من الدرجة الأخيرة، أو من ناحية النظرة الاجتماعية الأمازيغية التي كانت ترى أن البيت هو الفضاء الطبيعي للمرأة.

لم تمض إلا شهور قليلة على التحاقها بالمدرسة القرآنية، حتى تدبر لها والدها مقعداً في المدرسة الفرنسية. هذا الأب سيتم استحضاره في روايتها المذكورة، بصفته رجلاً حداثياً، يؤمن بحرية المرأة، وحقها في أن تكون شريكة في الفضاء والعطاء.

من هنا بدأ لسان الطفلة التي حملت فيما بعد اسم آسيا جبار، يُبرمج على لغة فولتير التي أتقنتها بسرعة، حتى كتبت بها عملها الأول "العطش" عام 1953 وهي في سن السابعة عشر. في هذه الرواية، جعلت جبار من "نادية"، مدخلها إلى رصد هواجس المرأة، وهي تبحث عن سعادتها من خلال الرجل. وطَفَت لأول مرة على السطح تعسفات زواج الجزائريين من الأجنبيات، بعد قرن وثلاثة عقود من الاستعمار الفرنسي.

سافرت إلى فرنسا حاملة معها رغبتين؛ الانخراط في تيار ثورة التحرير التي اندلعت عام 1954، ومواصلة دراستها في الجامعة. حقّقت الرغبتين معاً؛ إذ شاركت في إضرابات الطلبة الجزائريين المساندين لاستقلال بلادهم، وانتسبت إلى دار المعلمين في باريس عام 1955.

في النصف الثاني من الخمسينيات، كانت جبار ضمن تيار أدبي جزائري بدأ يتشكل بصمت، ومن أبزر وجوهه مالك حداد وكاتب ياسين. من ميزات هذا التيار أنه كان يكتب بلغة المستعمِر، لكنه طوّعها لنقل ملامح وروح المكان والإنسان الجزائريين، وهما يصارعان ترسانة استعمارية تروم طمسهما.

من شخصية "نادية" التي كانت ضحية الزواج القائم على اختلاف اللغة والثقافة في رواية "العطش"، إلى شخصية "دليلة" في روايتها "القلقون" عام 1958؛ حيث مثّلت المرأة التي تكون ضحية الزواج القائم على الاختلاف في نمط التفكير، وهي السنة نفسها التي تزوجت فيها الكاتب أحمد ولد رويس، لتؤكد أنها ليست ضد مؤسسة الزواج، بل ضد التعسفات التي يمليها غياب الحرية داخلها.

لم يمنعها زواجها من مواصلة مشروعها الأدبي والأكاديمي والإعلامي، فاشتركت مع زوجها، بعد الانتقال للعيش في سويسرا، في كتابة رواية "أحمر لون الفجر"، وراسلت الصحافة التونسية، وهي تخوض تجربة السنوات الأولى من الاستقلال التونسي. لم تكن "حسيبة" في رواية "أطفال العالم الجديد"، والتي تزامن صدورها مع تقرير المصير في الجزائر عام 1962، إلا صورة للمرأة التي نسجت خيوط ثورة التحرير، بالشراكة مع الرجل، وما عليها إلا أن تشارك أيضاً في نسج خيوط الاستقلال.

هذا ما جسدته جبار مباشرة، إذ حصلت للمرة الثانية على لقب "الجزائرية الأولى" في مجالات مختلفة، كونها أول جزائرية توظف أستاذة في الجامعة، حين درّست مادة التاريخ، بعد أن كانت أول جزائرية تلتحق بدار المعلمين في باريس.

هذه الألقاب توالت فيما بعد، حيث كانت أول كاتبة جزائرية تنال "جائزة السلام" التي تمنحها المكتبات الألمانية، وأول عربية وخامس امرأة، تعين عام 2005 في الأكاديمية الفرنسية التي تعد أعلى هيئة علمية في اللغة الفرنسية، وأول كاتبة عربية ترشح لجائزة نوبل في أكثر من دورة، لكنها لم توفق في الحصول عليها؛ لأسباب وصفها مدير الجائزة السابق جونر جان بالسياسية في مذكراته.

تدريسها للتاريخ، لم يطبع رواياتها ومسرحياتها وأفلامها التي أخرجتها، بمسحة تاريخية إلا في حالات قليلة، في مشهد جزائري منخور بسؤال الهوية، بل قادتها نزعتها التحررية، إلى أن تجعل من إبداعاتها في الرواية والقصة والمسرح والسينما، حقلاً لرصد أوجاع وأحلام المرأة الجزائرية، وهي تخوض معركة التحرير في العهد الاستعماري، ورهان التحرر بعد الاستقلال.

 إنها أكثر كاتبات عصرنا شبهاً بشخوصها. كما كانت شبيهة بكثير من الكتاب الجزائريين في قرار الهجرة إلى الخارج، فكانت باريس وجهتها عام 1980، ولم تزر مسقط رأسها إلا مراتٍ قليلة جداً، منها تلك التي كانت في عز الأزمة الأمنية في التسعينيات، حيث وجدت جحافل من المتطرفين الذين يسفكون الدماء باسم الدين، مما ولّد لديها صدمة عميقة ظهرت في روايتيها "وهران.. لغة ميتة" و"الجزائر البيضاء".

في الروايتين تجاوزت المرأة هاجس بناء بيت، إلى رهان الحفاظ على وطن، تماماً كما تجاوزت صاحبة كتاب "نساء الجزائر"، صدمة الموت الذي واجهه وطنها، بكتابة رواية عن الحب والحياة. رواية "ليالي ستراسبورغ" التي تمنت أن تنتقل مناخاتها الحالمة، إلى مسقط رأسها الذي أوصت بأن تدفن فيه. وهذا ما سيحصل غداً الأحد، بحسب بيان لأسرتها نشره موقع جمعية أصدقائها.

المساهمون