الثورة على مفهوم الانغلاق

21 أكتوبر 2017
+ الخط -
بات الجميع مقتنعاً بأن موسم "داعش" في سورية والعراق شارف على الانتهاء، وأن المرحلة المقبلة، الضبابية، في حاجةٍ إلى عناوين سياسية واضحة، كي لا تتناسخ الحروب المتفرقة وتتشعّب. أولى تلك الحروب هي الاشتباكات بين البشمركة و"الحشد الشعبي" في العراق. وبغضّ النظر عن الطبيعة السياسية لهذه المعارك، وارتباطها باستفتاء انفصال كردستان في 25 سبتمبر/أيلول الماضي، والإسقاطات الجيوبوليتيكية والتاريخية عليها، إلا أن الواقع واحد: اشتباك سني ـ شيعي. وهذا النوع من الاشتباكات الطوائفية مرشّح للحصول في أماكن أخرى من العراق وسورية، كالجنوب العراقي ووسطه، والرّقة ودير الزور ودرعا والسويداء وغيرها في سورية.
وفي غياب أي ضابط يمنع الاشتباكات "الدينية"، فإن توسّعها وانتشارها، تحديداً في المشرق العربي، مرشّح للتصاعد في المرحلة المقبلة، فالشرق الأوسط قطع مغناطيس تتجاذب بعضها بعضا في غياب التوازن الذي من المفترض أن يعتبر من "الحلول النهائية" فيه. وهذا يعني، على المدى البعيد، أمرا من اثنين: إما انتصار طائفة أو قومية على الجميع، مع ما يحمله ذلك من أحقاد متوارثة ستؤدي إلى انتفاضة "المظلوم" لاحقاً للتحوّل إلى "ظالم" جديد، أو تكريس دويلاتٍ على أسس مذهبية وقومية. وأي من الأمرين لا يُعدّ حلاً مثالياً، بل هو أقرب إلى الاختيار بين السيئ والأسوأ.
هذا الاختيار، المعطوف على فشل معظم الجيوش العربية في أداء دور "حامي الدولة والقانون" لا "حامي السلطة والأنظمة"، أدى إلى تفسّخ فكري واسع النطاق في تبيان (أو استشراف) ملامح المرحلة المقبلة في الشرق الأوسط، خصوصاً على صعيد العلاقات بين جماعاته. والمضحك المبكي هو قدرتنا على "اختيار" طريق من اثنين، طريق "الدويلة" مع كل ما يمكن أن يرافقها من تمييز ديني وقومي وانغلاق فكري، أو طريق "الدولة" بحمى جيشها الذي تمادى في صون السلطة وقمع الشعوب، مع ما يعنيه من قمع عقلي. "حق الاختيار"، ولو كان على شاكلة هذين الطريقين، إلا أنهما يؤديان معاً إلى الهاوية.
كيف يمكن الخروج من تلك الدوّامة، من دون أن يعني ذلك الاضطرار إلى مسايرة خيار مفروض على المجتمع؟ تبدأ الأمور بحدّها الأدنى في الثورة على فكرة الانغلاق بحدّ ذاتها، لا على تكريس الاتهامات المتبادلة، واعتبار "الآخر" العدو الذي يجب التخلّص منه، فقط لأنه من قومية أو طائفة أو عرق مغاير. كما يتوجب ترسيخ الاقتناع بمبدأ أن "لا أحد يملك الحقّ كاملاً"، لا بقوة سلاحه، ولا بقوة عقيدته الدينية والسياسية، بل فقط بقوة العدالة الإنسانية. بهذه الفكرة يمكن الوصول إلى المكان الذي يسمح للجميع قول ما يشاؤون، من دون التعرّض لرصاصةٍ في الرأس، أو لاتهامات بالتخوين، أو النبذ.
وإذا كان مفهوم الثورة على الانغلاق فرديّا أكثر منه جماعيا، فإن قضية انتشار السلاح بين المجموعات الدينية والقومية، بحجة "خوفها"، أمر ملحّ يتوجب الخلاص منه. صحيح أن الخلاص من المليشيات المذهبية والقومية في حاجة إلى سنواتٍ ضوئية، لكنها تستحق المحاولة، قياساً على المسار الدموي للشرق الأوسط، وعدم تخلّصه من أتون الحروب المتناسلة. مع العلم أن التجربة اللبنانية التي تحوّلت إلى نسخة مكرّرة في سورية والعراق واليمن ليست التجربة المشجّعة التي يُمكن أن تؤدي إلى "طائف" جديد يضمن السلم الأهلي، فلا سلم أهلياً تحت عناوين دينية وقومية، كونه الدرب الأسهل للقضاء على تطوّر القوانين المتعلقة بالإنسان وحريّته. وهو أمر نلمسه يومياً في لبنان، من الطبابة إلى التعليم والغذاء والمواصلات وملف النفايات، فقد أدت المحاصصات الطوائفية إلى تمكين السلطة في يد حفنةٍ من رجال الدين ورجال الأعمال وأمراء الحرب، الذين "يثابرون" على سرقة المواطنين، فضلاً عن تجهيل القوانين المدنية، القادرة على كسر القوالب الدينية والمذهبية. "الثورة على الانغلاق" هو كل ما نحتاجه في شرقنا.
6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".