الثورة المقدسة

23 يناير 2016
+ الخط -

ينشر شاعر عربي معروف على صفحته في "فيسبوك" جملة من سورةٍ من القرآن الكريم، حوّر فيها الكلمة الأخيرة من الجملة، فينزل غضب السماء على الشاعر، شتائم على صفحته، وعلى صفحات الآخرين، اتهامات بالإساءة للدين الإسلامي، ومطالبات بحل دمه. يحذف الشاعر الكبير  الجملة. ويعتذر عنها، لم يرتكب الشاعر إثماً عظيماً، سوى أنه اقترب من المقدس الذي يشعر كثيرون، اليوم، أنهم مستهدفون بسببه. لا بأس، يمكن فهم المظلومية التي يعيشها كثيرون من المسلمين بعد السنوات الخمس المريعة الماضية، بكل ما حدث فيها، فما حدث لا بد وأن يترك شعوراً بالظلم، لا تستطيع العامة تفسيره، بغير انتمائها إلى فئةٍ دينيةٍ ومذهبيةٍ مستهدفة. حدث هذا في التاريخ سابقاً مع فئاتٍ دينيةٍ ومذهبيةٍ أخرى، مازالت تستند على مظلوميتها التاريخية في سلوكها الحالي، وما زالت بسببه تبرّر أخطاءها وارتكاباتها، وهو ما انتقل، وما سينتقل، إلى فئات أخرى، وسيستمر زمناً طويلاً.

لن ينتهي هذا الصراع قريباً، لن ينتهي قبل الاقتناع الكامل أن فصل المقدس عن  الحياة اليومية، السياسية والاجتماعية والفكرية، هو الحل، وأن مكان المقدس في النفوس أولاً، وفي دور العبادة أياً كانت هذه الدور. يمكن إذاً فهم هذه الحساسية المفرطة تجاه النص الديني والاقتراب منه، بما يثير غضب المؤمنين به. المفارقة أن أي اقترابٍ من النص الديني المقدّس يثير حفيظة أبناء الطوائف المتصارعة كلها. في لحظة كهذه، يتفق المتصارعون على هدف واحد، هو تجريم من يعتبرونه مسّ بالنص المقدس وتكفيره، متناسين خلافاتهم وصراعاتهم وحروبهم، وكل الدم الذي يدفعونه ثمناً لما يعتقدونه إيماناً بعقائد دينية، انتموا إليها بالمصادفة المحضة. وعلى الرغم من أن الثورات العربية كانت تهدف، من ضمن أهدافها، إلى الانتهاء من فكرة التقديس وتحطيم كل الرموز الطوطمية، في مجتمعاتٍ تعيش اجتماعياً وسياسياً على فكرتي الطوطم والتابو، إلا أن الافتراقات التي حدثت لهذه الثورات جذّرت أكثر العلاقة مع ثنائية الطوطم والتابو، وازداد عدد المحرّمات والمقدسات، أو بالأصح تم استبدال مقدساتٍ بأخرى. لو استثنينا المقدس الديني ذا الجذر العميق في اللاوعي العربي، لوجدنا أن الشعوب الثائرة اخترعت لها رموزاً جديدة، بدل تلك التي حطمتها.

كان المذهل والمفاجئ، في سورية مثلا، في بداية الثورة، قدرة شباب الثورة على تحطيم كل الرموز، تهديمها، تشريحها، التمثيل بها، إعادة قراءتها عبر قراءة التاريخ من جديد، كل الرموز، السياسية والاجتماعية، بل وحتى الدينية، حتى الشتائم التي أطلقوها ضد هذه الرموز كان يمكن فهمها في إطار التخلص من سنوات الخوف الطويلة والانعدام الكامل للتعبير عن الرأي، غير أن ما حدث أن الثورة بحد ذاتها تحولت إلى مقدس جديد، يتعرّض كل من يناقش خطأً فيها إلى التخوين والشتمية والاستباحة الكاملة، بحيث أن من يرغب في نقد ظاهرةٍ ثوريةٍ ما هو تماماً كالراغب في نقد النص الديني. ليست الثورة فقط، بل كل ما يخصها، وكل ما يصدر عنها، مهما كان مريعاً وسيئاً وفجاً. وبدل الأيقونات الثقافية والسياسية السابقة للثورة، صارت هناك أيقونات ثورية جديدة، ثقافية وسياسية وعسكرية ودينية وإعلامية. من يعترض على سلوك أحد هذه الأيقونات، أو يكتب رأياً مخالفاً لما يقوله هؤلاء، فهو مرتد، وحكم المرتد هو القتل المعنوي، إن لم يكن القتل المادي متاحاً. ولكن، يمكننا أيضاً تبرير هذه الظاهرة بحالة الخذلان التي أصابت سوريي الثورة، حين تخلى الجميع عنهم، بحيث لم يبق ما يستندون عليه سوى فكرة الثورة نفسها، للحماية من انهيارات الخيبة، حتى لو كانوا يدركون، في أعماقهم، أنها لم تعد صالحة للحماية، بعد أن تم الفتك بها. هكذا، تشبه حالة هؤلاء حالة المؤمنين الذين يرون أنهم محاصرون بسبب عقيدتهم، فيزدادون تمسكا بدينهم، أو مذهبهم، في وجه محاصريهم. لكن، هل هذا مفيد للثورة التي حلم بها الجميع، وبدأت تتسرب من أيديهم شيئاً فشيئاً؟ ما يبدو أن ذلك كان سبباً مضافاً لأسباب الفتك بالثورة والتخلي عنها، تحولها إلى مقدس كان أحد أسباب مقتلها، بدأ السوريون يعون ذلك، متأخرين! نعم، لكن لا بد من صحوة كهذه للبدء من جديد. 

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.