الثورة العراقية التي قصمت ظهر إيران

22 نوفمبر 2019
+ الخط -
لم يأت تصنيف الثوار العراقيين نظام إيران عدوا لبلدهم لمجرد تدخلاتها بالشأن العراقي، أو لعلاقة المليشيات المسلحة بملاليها، على الرغم من أضرارها الفادحة، وإنما أتى بسبب إدراك الشعب العراقي حقيقة الطموحات الإيرانية التاريخية باحتلال العراق، وضمّه للإمبراطورية الفارسية المنتظرة. وقد أثبت تاريخ حكام فارس هذه الحقيقة، سواء كان الحاكم ملكا يلبس التاج ويحمل الصولجان مثل كسرى، أو يرتدي بدلة إنكليزية وربطة عنق فرنسية مثل شاه إيران، أو عمامة سوداء مثل الخميني أو خامنئي. 
لقد عبّر الخميني عن هذه الطموحات، حين اضطر إلى وقف حربه ضد العراق مدة ثماني سنوات بقوله "أقبل بوقف الحرب كمن يتجرّع كأسا من السم"، ثم قضى نحبه كمدا بعد شهور. ويبدو أن خليفته، علي خامنئي، تعهد بتحقيق الحلم الذي عجز الأسلاف عن تحقيقه، حيث اعتبر فرصة احتلال أميركا وحلفائها العراق الهدية التي أنزلها الله له من السماء، فمدّ يده لهذا المحتل، الذي كان بالأمس الشيطان الأكبر، وقدم له كل ما لدى إيران من خدمات لتسهيل مهمّة الاحتلال في مقابل حصة تتناسب وحجم تلك الخدمات، على أمل الاستحواذ على العراق في المستقبل. ومن غير المجدي تأكيد هذه الحقيقة بوقائع وأدلة باتت معروفة للجميع. إذ تكفي تصريحات قادة إيرانيين مثل، محمد علي أبطحي نائب الرئيس حينها للشؤون القانونية والبرلمانية، والرئيسين الأسبقين، هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي، وغيرهم من كبار المسؤولين الإيرانيين، والتي ذكرت بوضوح إنه لولا إيران لما تمكنت أميركا من احتلال كابول وبغداد. في حين أصبح معروفا للجميع تعاون السفير الأميركي في بغداد وممثل طهران الجنرال قاسم سليماني بعد الاحتلال، وعمل كل ما يلزم لإلقاء مشروع الدولة وتصفيره طرفا مركزيا في المعادلة الإقليمية.
ولكن الرياح لم تسر بما اشتهت سفن ملالي طهران، حيث توالت عليها المصيبة تلو الأخرى على يد الثورة العراقية العظيمة، حيث وجه الثوار ضربةً موجعةً ومفاجئة لإيران، خلخلت جميع 
مرتكزاتها في العراق، السياسية والاقتصادية والعسكرية والمذهبية التي بنتها خلال ستة عشر عاما. رفع الثوار شعار "ايران برّه برّه وبغداد حرّه حرّه"، ليتبعه حرق القنصلية الإيرانية في كربلاء ورفع العلم العراقي عليها، لتنتهي بتمزيق صور الخميني وخامنئي، وتبديل الشوارع التي تحمل أسماء هؤلاء الملالي إلى أسماء تخص الثورة العراقية، ومنها اسم شارع ثورة تشرين بدل اسم شارع الإمام الخميني. وكان جديد هذه الضربات التي قصمت ظهر البعير الايراني فوز الفريق العراقي على إيران في كرة القدم، حيث مثّل الاحتفال بهذا الفوز في عموم المدن العراقية استفتاء شعبيا ضد إيران. 
ولكن هذا ليس كل شيء، فنيران الثورة العراقية امتدت لتحرق مرتكزها وسندها في لبنان، حزب الله، من خلال انتفاضة الشعب اللبناني ضد آفة الفساد والطائفية التي نخرت البلاد وأضرت بالعباد. وليس مستبعدا أن تحترق ركائز إيران في سورية على يد انتفاضة أو ثورة مشابهة في القريب العاجل، تقوم على أسس وأفكار جديدة، لا يمكن لأي جهة اختراقها كما حدث في الانتفاضة الأولى. أما المصيبة الكبرى، فهي الانتفاضة التي اندلعت في مدن إيرانية عديدة، والتي اتخذت من قرار رفع أسعار البنزين الى ضعفين سببا لها، غير أن شعاراتها تعدّت هذا القرار إلى المطالبة بإسقاط النظام الذي وصفوه بالنظام الديكتاتوري الظالم ونهجه التوسعي خارج الحدود وإرهاق ميزانية الدولة بدعم المليشيات المسلحة هناك. الأمر الذي دعا خبيرها بقمع الثورات والانتفاضات، الجنرال قاسم سليماني، إلى مغادرة العراق والعودة الى طهران، لقمع الانتفاضة الايرانية الواعدة.
ليس غريبا أن يستنفر ملالي طهران كل قوتهم لقطع رأس الحية، على حد تعبيرهم، بإنهاء الثورة العراقية أولا، حيث دفعت إلى إنجاز هذه المهمة القذرة بمجموعات كبيرة من حرسها الثوري، من جهة، والمليشيات المسلحة العراقية المرتبطة بها من جهة أخرى، خصوصا وأن حكومة عادل عبد المهدي فشلت في إنهاء الثورة العراقية، بما تيسّر لها من وسائل الخداع والتضليل، وما بين يديها من قوةٍ عسكريةٍ متمرسةٍ في هذا المجال، حتى تحولت مواجهة الثورة السلمية من مواجهة آلة القمع التابعة للحكومة إلى مواجهة مباشرة مع ملالي طهران في جميع ساحات التحرير في المدن العراقية.
واليوم وأمام صمود الثوار واستعدادهم للتضحية والإصرار على تحقيق مطالبهم كاملة، وفي مقدمتها إسقاط النظام وحل مجلس النواب وإلغاء الدستور الذي كتبه المحتل الأميركي وتقديم  الفاسدين إلى المحاكم لنيل جزائهم العادل، لجأت إيران، وبالتعاون مع الحكومة، إلى وسائل دنيئة جدا، من بينها تقزيم الثورة واعتبارها فورة غضبٍ سرعان ما تهدأ ويعود الناس إلى بيوتهم. ومنها إلصاق التهم الباطلة بها كالادعاء بوجود مندسين ومخرّبين فيها، أو القول إنها حراك لمجموعات إرهابية تنفذ أجندات لدول معادية "للعراق الديمقراطي الجديد"، أو إشاعة حالة من الخوف والفزع بترويج الأراجيف عن النهاية الحتمية لهذه الثورة على الطريقة التي انتهت بها الثورات السورية والليبية واليمنية. وقد جندت إيران والحكومة العراقية لهذا الغرض أبواق دعاياتها المغرضة وأقلامها المأجورة ومحطاتها الفضائية ومنابرها الحسينية.
وإلى جانب هذه الوسائل الدنيئة، لجأ الملالي إلى دفع الحكومة إلى تقديم تنازلاتٍ ترضي الثوار من خلال رفع شعار الإصلاحات، ووصفها بالجدية والتعهد بمحاربة الفساد والفاسدين، فسارعوا إلى عقد اجتماعاتٍ فوريةٍ متنوعةٍ، تارة من مجلس الوزراء وأخرى لمجلس النواب وثالثة لمجلس الرؤساء الثلاثة، رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ورئيس مجلس النواب، ليخرجوا بالعبارات المملة التي تتبخّر بعد مرور أيام معدودات من قبيل "وضع جدول زمني لتلبية مطالب
المتظاهرين"، و"وضع خريطة طريق وتحديد مدد زمنية". ولإقناع الثوار بمصداقية الوعود، لجأ عبد المهدي إلى إطلاق نكتةٍ سمجة، حين أعلن عن وقوفه إلى جانب المتظاهرين، والطلب إليهم بمواصلة ثورتهم، لتكون فعلا ضاغطا على الحكومة للإسراع بتنفيذ المطالب! ونسي مطالبته قبل أيام بإنهاء التظاهرات واستبدالها بتظاهراتٍ أسبوعيةٍ محدودة، بعد الحصول على إذن من السلطات الرسمية. ولم يستبعد هؤلاء سلاح المرجعية الدينية لإنقاذهم من هذه الورطة. وفعلا قامت هذه المرجعية بالدور المطلوب، وبطرق ملتوية، بحيث تضمنت خطاباتها مسك العصا من الوسط. فعلى سبيل المثال، أقرت النقطة الثانية من خطابها أخيرا من جهة حقوق المتظاهرين ومطالبهم، ومن جهة أخرى طالبت حكومة الفساد والفاسدين بالإصلاحات. حيث ورد فيها بالنص "ومن هنا، فإنّ من الأهمية بمكان إسراع الحكومة في إقرار قانون منصف للانتخابات يعيد ثقة المواطنين بالعملية الانتخابية، ولا يتحيز للأحزاب والتيارات السياسية، ويمنح فرصة حقيقية لتغيير القوى التي حكمت البلد خلال السنوات الماضية اذا أراد الشعب تغييرها واستبدالها بوجوه جديدة"، في حين تعلم المرجعية علم اليقين أن الفاسد لا يمكن أن يكون مصلحا ضد الفساد، وأن المرجعية ذاتها اعترفت بهذه الحقيقة في مقطع من الفقرة الثالثة في الخطاب نفسه عن قدرة هذه الحكومة على القيام بأي إصلاح، مهما كان متواضعا بقولها "وهذا مما يثير الشكوك في مدى قدرة أو جدية القوى السياسية الحاكمة في تنفيذ مطالب المتظاهرين حتى في حدودها الدنيا، وهو ليس في صالح بناء الثقة بتحقيق شيء من الإصلاح الحقيقي على أيديهم". وكان جديد هذه المحاولات في هذا الخصوص فشل اتفاق المرجعية وممثلة الأمم المتحدة للالتفاف على الثورة العراقية، حيث رفض الثوار مثل هذا الوساطات، كونها تتعاكس مع مطالبهم بإسقاط النظام ومحاكمة الفاسدين من دون استثناء.
تُرى هل يستطيع ملالي طهران إنقاذ نظامهم من السقوط بما تيسر لهم من قوة وجبروت وخبث، 
اضافة إلى دعم الحكومة العراقية ومليشياتها المسلحة؟ تختصر الإجابة بالاكتفاء بتذكير هؤلاء بما وعدت به الثورة العملاقة في ساحات التحرير، وإصرارها القاطع على تحقيق مطالبها غير منقوصة، ومنها إنهاء النفوذ الإيراني في العراق وتصفية مخلفاته. وإذا سولت لهم عقول الملالي بأنهم قادرون على تحقيق نجاحات بما توفر لهم من الوسائل الغادرة ضد الانتفاضات الشعبية التي سبقت الثورة العظيمة، فإنهم واهمون تماما، حيث أصبحت أوراقهم مكشوفة، وقوتهم العسكرية عاجزة عن إرهاب طفل عراقي مشارك في الثورة، وإن صرخة الثوار تشق عنان السماء، تقول، "لو أمطرتم على رؤوسنا كل أسلحتكم لن نتراجع. ولن نتخلى عن ثورتنا السلمية، قبل تحقيق الانتصار النهائي".
نعم هناك انتفاضات وثورات فشلت أو انتهت بطرق مأساوية وطواها النسيان، أو سجلت ضمن الذكريات الوطنية المؤلمة. مثلما هناك ثورات وانتفاضات قد تم خداعها والالتفاف عليها لتخرج بخفي حنين كما يقال، لكن ثورة العراق اليوم لن تخدع بالوعود الوردية، ولن تقبل بأنصاف الحلول، ولن تهزم بالآلة العسكرية مهما طال الزمن وازداد حجم التضحيات. وإن غدا لناظره قريب.
449E67CD-2345-4256-B47C-D40EDFC14B37
449E67CD-2345-4256-B47C-D40EDFC14B37
عوني القلمجي

كاتب وسياسي عراقي رئيس التحالف الوطني العراقي سابقا

عوني القلمجي