لا تكشف تسريبات "أوراق بنما" الجديدة، على ضخامتها، حجم الثروات المسروقة، ولكنها توضح بصورة دقيقة أين وكيف تُدار تلك الثروات. وهذه التسريبات هي الأكثر ضخامة من أي تسريبات سابقة مماثلة، حيث إنها تتجاوز في حجمها البرقيات الدبلوماسية الأميركية المنشورة في موقع "ويكيليكس"، كما تتجاوز حجم الوثائق الاستخباراتية السرية التي قدمها للصحافيين إدوارد سنودن في عام 2013.
ويصل عدد الوثائق المسربة من قاعدة بيانات "موساك فونسيكا" إلى أحد عشر مليون ونصف المليون وثيقة، أو ما يعادل 2.6 تيرابايت من المعلومات، ولكن أهميتها تكمن في أنها تبيّن بأدلة قاطعة هويات أصحاب تلك الثروات ومن يديرها لهم وتحت أي مسمى يديرونها.
إدارة الثروات
"موساك فونسيكا"، هو مكتب محاماة مسجل في بنما وله فروع في 42 بلدا، يقدم خدمة إدارة الثروات ويساعد على تأسيس شركات "الأوفشور" في الملاذات الضريبية الآمنة مثل جزر فيرجن البريطانية، وتابعيات التاج البريطاني غيرنسي، جيرسي، وجزيرة آيل أوف مان، فضلا عن سويسرا وقبرص.
ويقدم المكتب خدمة إدارة الشركات في الملاذات الضريبية الآمنة مقابل رسوم سنوية، وللمكتب صلات قوية بالمملكة المتحدة، إذ إن أكثر من نصف الشركات التي يديرها مسجلة في الملاذات الضريبية البريطانية، أو داخل الأراضي البريطانية نفسها، ويعتبر رابع أكبر مزوّد لهذا النوع من الخدمات في العالم، حيث يوفر خدماته لأكثر من 300 ألف شركة. وموقع المكتب على شبكة الإنترنت يعمل به حوالي 600 شخص موزعين على جميع الفروع.
ورغم أن الأموال المتدفقة إلى الشركات التي أسسها أو يديرها مكتب موساك فونسيكا تدور حولها الشبهات، إلا أنه من الصعب الجزم بأن جميع أصحابها محتالون. حيث إن هناك العديد من الأسباب المشروعة للاستعانة بها. فرجال الأعمال في دول مثل روسيا وأوكرانيا عادة ما يفضّلون إيداع أصول شركاتهم في الخارج لحمايتها من العصابات الإجرامية، ومن أجل التغلب على قيود الحصول على العملات الصعبة. كما أن هناك من يلجأ إليها لأسباب تتعلق بتقسيم الإرث أو بالتخطيط الحضري.
غير أن الفاسدين وناهبي الأموال في بلدانهم يستفيدون بالطبع من آلية تأسيس شركات مجهولة المالكين، ولن يسرهم بالتأكيد ما تعمل الحكومة البريطانية على إنجازه، وهو إنشاء سجل مركزي من شأنه أن يكشف عن المستفيدين الحقيقيين من شركات الأوفشور. فاعتبارا من يونيو/ حزيران المقبل ستتوفر لدى الشركات البريطانية كشوف عن أصحابها الرئيسيين الحقيقيين للمرة الأولى.
وتشير الوثائق والبيانات المسربة بأصابع الاتهام إلى 72 رئيسا حاليا أو سابقا، من ضمنهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ورئيس الوزراء الباكستاني نواز شريف، ونائب الرئيس السابق للعراق أياد علاوي، ورئيس أوكرانيا بيترو بوروشينكو، ونجل الرئيس المصري السابق علاء مبارك، والأخوان رامي وحافظ مخلوف في سورية اللذين يشتبه بأنهما يديران ثروة الرئيس السوري بشار الأسد، ورئيس الوزراء الآيسلندي، سيغموند ديفيد غونلاغسون، الذي كانت له مصلحة غير معلنة مرتبطة بثروة زوجته ويواجه الآن دعوات لاستقالته.
حسني مبارك ونجله علاء
ورد اسم الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك في وثائق بنما ليكس من خلال ابنه البكر علاء مبارك، الذي اتضح أنه يمتلك شركة استثمارات عالمية عملاقة مسجلة في فيرجين آيلاندز البريطانية، ويديرها بنك "كريديت سويس".
وتأكيدا لذلك، تضمنت الوثائق صورة ضوئية مصدّقة لجواز سفر علاء مبارك تبيّن أنه من مواليد عام 1960، ويعمل بوظيفة "أعمال حرة"، وعنوان إقامته هو 9 شارع السعادة - عمارات عثمان، روكسي - مصر الجديدة ـ القاهرة. كما تتضمن الوثائق بعض المراسلات المتعلقة بالشركة التي يمتلكها علاء مبارك لكنها لا تحدد على وجه الدقة حجم أصولها.
وفي أبريل/ نيسان من عام 2011، اعتقل علاء مبارك مع والده وشقيقه جمال، بعد استقالة حسني مبارك من رئاسة الجمهورية تحت ضغط ثورة 25 يناير الشعبية. وفي العام ذاته صدرت تعليمات من الاتحاد الأوروبي إلى "موساك فونسيكا" تقضي بتجميد أصول شركة علاء مبارك الاستثمارية.
وفي عام 2013، تشير الوثائق إلى أن سلطات "فيرجين آيلاندز" البريطانية فرضت غرامة على موساك فونسيكا مقدارها 37500 دولار، لعدم التحقق بشكل صحيح من هوية علاء مبارك الذي وصفته السلطات بـ"زبون ذي مخاطر عالية".
واعترف مسؤولو موساك فونسيكا في تحقيق داخلي، بأن إجراءاتهم كانت معيبة بسبب عدم تحديد هوية علاء مبارك في وقت مبكر بما فيه الكفاية، ومع ذلك، كتب "كريديت سويس" إلى "موساك فونسيكا" قائلا إن الأنشطة التي تقوم بها شركة علاء مبارك في عموم العالم لا تتعارض مع تجميد سويسرا أصول مبارك.
وفي عام 2014، فتحت سلطات فيرجين آيلاندز البريطانية تحقيقا آخر مع "موساك فونسيكا" وشركة علاء مبارك. ولمّح بعض موظفي موساك فونسيكا إلى وجود المزيد من المخالفات القانونية، مشيرين إلى ضعف مستوى تحكّمهم بشركة علاء مبارك وتم التخلي عن وكالة الشركة في أبريل 2015.
حكم على مبارك وولديه في مايو/ أيار 2015 بالسجن لمدة ثلاث سنوات بتهمة اختلاس ملايين الدولارات من أموال الدولة المخصصة لترميم القصور، وأصدرت محكمة جنايات القاهرة أمرا بإطلاق علاء وشقيقه في أكتوبر/ تشرين الأول 2015، بعد احتساب الفترة التي أمضياها في السجن منذ اعتقالهما، لكنهما لا يزالان يواجهان اتهامات قضائية تتعلق بممارسات أخرى. أما والدهما، الرئيس السابق، فبقي رهن الاعتقال في مستشفى عسكري.
ورفضت أسرة مبارك الاستجابة لطلبات متكررة بالتعليق على المعلومات الواردة في وثائق بنما ليكس ذات الصلة بجواز سفر علاء مبارك وأوامر تجميد أصول مبارك في فيرجن آيلاندز البريطانية وتحريات مالية داخلية خاصة بمكتب "موساك فونسيكا".