التنكيل بأسرة سيف الإسلام: انتقام من العائلة وثورة يناير

24 يونيو 2020
سناء وعلاء خلال تشييع والدهما عام 2014(حسن محمد/فرانس برس)
+ الخط -

"لن يخرجوك من التاريخ ما دمت قادراً على الحديث. لن ينفوك للماضي ما دمت قادراً على الاستماع. لكن أي حاضر تسكن؟ لتسكن أحلام رفاقك وكوابيس أعدائك. عش في مستقبل لم يتحقق، عش فيه كطيف وعبرة وذكرى. ذكّرهم أن الحاضر لم يكن حتمياً قبل أن يصير. لا تشغل نفسك بسؤال لِمَ لم يتحقق هذا المستقبل المحتمل؟ دع المنتصر يبحث عن الإجابات. كن أنت السؤال ولا تنشغل بعجزك، فالشبح لا يحتاج لحضور مادي ولا تأثير فعلي. عليك فقط أن تتجلى".

هذه الكلمات التي كتبها الناشط السياسي البارز علاء عبد الفتاح، لم تكن مجرد شعارات مجازية رنانة في إحدى مقالاته، بل هي درب من دروب الحياة التي فرضها المحامي والحقوقي الراحل أحمد سيف الإسلام، ليسير عليها أفراد أسرته من بعده. كان التطبيق الفعلي لهذه الكلمات في صورة وقفة احتجاجية نظمتها أسرة علاء عبد الفتاح أمام مجلس الوزراء المصري، في 19 مارس/ آذار الماضي، في وقت يخشى فيه الجميع من البطش الأمني الذي يعصف بكل محتج وثائر، من أجل الاطمئنان إلى صحة علاء، بعد قرار منع الزيارات للسجون.

ثم جاء التطبيق الفعلي ثانية، في صورة اهتز لها أصحاب الضمائر في مصر والعالم العربي، عندما اتكأت الأكاديمية اليسارية البارزة ليلى سويف، على جدار سور سجن طرة، ترتدي كمامة وتحتضن كتاباً، وتنتظر ساعات وليالي لتحصل على جواب بخط يد ابنها المعتقل علاء سيف الإسلام. ومن جديد ضربت أسرة سيف الإسلام مثالاً للصمود، عندما صرخت منى سيف الإسلام، شقيقة علاء عبد الفتاح، باكية من اعتداء مأجورات بلطجيات عليها وعلى شقيقتها الصغرى سناء، ووالدتها، أثناء اعتصامهن أمام بوابات سجن طرة. ثم أجهشت بالبكاء في اليوم التالي، وانقطعت أنفاسها وهي تحاول استيعاب اختطاف شقيقتها الصغرى من أمام مكتب النائب العام المصري، عندما توجهن بصحبة محامين لتقديم بلاغ بشأن الاعتداء عليهن.

ترفض أسرة سيف الإسلام الانصياع للأمر الواقع الذي تفرضه عليها السلطات، التي تخالف القوانين والأعراف الدولية بمنع السجناء من التواصل مع ذويهم، في ظل وباء عالمي قد يتحول لكارثة في مقار الاحتجاز المكدسة والوسخة. تُحرج الجهات المعنية بتطبيق القانون بمخالفاتها الصريحة له. تعلن دائماً أنها لن تتخلى ولن تفاوض على أنصاف الحلول مهما كان الثمن. وبالفعل، دفعت الأسرة الثمن مجدداً، بالقبض على أصغر أفرادها، سناء سيف، التي تم اختطافها من أمام مكتب النائب العام، وتم التحقيق معها بتهم نشر أخبار كاذبة، والتحريض على ارتكاب جرائم إرهابية، وإساءة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، وتم حبسها لمدة 15 يوماً على ذمة التحقيق في القضية رقم 659 لسنة 2020. وادعت النيابة وجود إذن مسبق لاعتقالها. هكذا عاقبت السلطات أسرة سيف الإسلام، التي تحاول تطبيق المادة 38 من قانون تنظيم السجون المصرية، التي تنص على أنه "بمراعاة أحكام قانون الإجراءات الجنائية، يكون لكل محكوم عليه الحق في التراسل، والاتصال التليفوني بمقابل"، و"للمحبوس احتياطياً هذا الحق، ما لم يصدر قرار من النيابة العامة المختصة أو قاضي التحقيق المختص بغير ذلك".



لكن المدقق في المشهد السياسي العام في مصر، سيكتشف أن السلطات لم تنتقم من أفراد أسرة سيف الإسلام فقط، بل تنتقم من ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011، وكل من آمن بها. ولم تعاقب أسرة سيف الإسلام على معركتها الأخيرة فقط، بالسرقة والضرب والسحل ثم الاختطاف والحبس، بل هو عقاب على مجمل أعمالها. فأحمد سيف الإسلام، الملقب بـ"محامي الفقراء"، مؤسس "مركز هشام مبارك للقانون"، والذي توفي أواخر أغسطس/ آب من العام الماضي، تربى على مبادئه عشرات المحامين الحقوقيين الذين يتولون حالياً الدفاع عن كافة المتهمين في القضايا السياسية، على اختلاف انتماءاتهم وأفكارهم. وكان أول اعتقال له سنة 1972 إثر تظاهرات الطلبة من أجل تحرير سيناء. ثم اعتقل سنة 1973، حيث قضى في السجن ثمانية أشهر، على خلفية مشاركته في الاحتجاجات على خطاب الرئيس المصري الراحل أنور السادات، وتأخره في اتخاذ قرار بالحرب مع إسرائيل. وأفرج عنه مع زملائه قبل حرب أكتوبر/ تشرين الأول بأيام. واعتقل أيضاً ليومين سنة 2011.

أما أطول فترات اعتقال لسيف الإسلام فكانت في العام 1983، حيث قضى خمس سنوات في سجن القلعة، الذي وصفه بـ"أبشع بكثير من سجن طرة في التعذيب". وأُلقي القبض عليه حينها بتهمة الانتماء إلى تنظيم يساري. وقد تعرض في ذلك الوقت للضرب والتعذيب بالكهرباء والعصي، وكسرت قدمه وذراعه. وتقدم وقتها ببلاغ للتحقيق في تلك الواقعة، لكن لم يحقق أحد فيه. وقد ولدت ابنته منى أثناء وجوده في السجن. وزوجته ليلى سويف، التي لم تترك يوماً ميادين الحرية والنضال، هي أستاذة رياضيات وعضو في "حركة 9 مارس لاستقلال الجامعات" منذ أن كانت تدرس في الجامعة، عندما خرجت، للمرة الأولى، في تظاهرة في العام 1972 من جامعة القاهرة. وهي المرأة الفولاذية التي كلما وقفت وحدها في وجه السلطة يعتذر لها كل أصحاب الضمائر في مصر والعالم، عن إحساسهم بالعجز والخذلان وقلة الحيلة.

وكذلك الحال مع شقيقتها الروائية والكاتبة أهداف سويف، التي لم تجلس أخيراً على مقعدها في مهرجان "هاي" في أبوظبي، لتتحدث عن الأدب والفن والشعر فقط، بل طاول حديثها الحريات السياسية ومبادئ حقوق الإنسان في بلدها مصر، وفي البلد المضيف للمهرجان، الإمارات. وطالبت بالحرية لكافة المعتقلين السياسيين في البلدين، قائلة "سطور التعاطف مهمة جداً، وأنا أعلم أنه بالنسبة للأشخاص الذين أعرف أنهم في سجون مصر من المهم للغاية أن نتذكرهم، ومن المهم جداً ألا تُستغل الفعاليات الثقافية للتعتيم على أوجه الظلم التي انتهت بهم إلى السجن، بل أن تستخدم لتسليط الضوء على قضاياهم".

أما منى سيف الإسلام، فهي مؤسسة مجموعة "لا للمحاكمات العسكرية"، والناشطة السياسية التي سارت على درب والدها. وسناء سيف، الشابة العشرينية، وأصغر فرد في الأسرة، تم اعتقالها سابقاً على خلفية القضية المعروفة إعلامياً بـ"متظاهري الاتحادية"، التي نظمها عدد من الشباب والقوى السياسية في مايو/ أيار 2013 للمطالبة بالإفراج عن علاء عبد الفتاح وزملائه المحبوسين، على خلفية قضية مجلس الشورى، وللمطالبة بإسقاط قانون التظاهر الذي حبسواً جميعاً بسببه، وخرجت مع نحو 100 شخص بموجب عفو رئاسي.

أما علاء عبد الفتاح، أحد أبرز رموز الثورة، فهو مبرمج ومدون، وكان متزوجاً من المدونة والناشطة منال حسن، ابنة مؤسس "مركز القاهرة لحقوق الإنسان" بهي الدين حسن، وله ابن اسمه خالد، والذي ولد عندما كان والده معتقلاً في فترة حكم المجلس العسكري. وكان علاء رمزاً لقضية المحاكمات العسكرية للمدنيين عام 2011، التي خرج منها ليمثل أمام المحكمة مرة أخرى في قضية التظاهر أمام مجلس الشورى في نوفمبر/ تشرين الثاني 2013، التي تعد أول وقفة احتجاجية خرجت لرفض وإلغاء قانون التظاهر، وتم تطبيق القانون عليها. وكان قد سُجن في العام 2006 في فترة حكم الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك، على خلفية تضامنه مع اعتصام قضاة "تيار الاستقلال في مصر".

المساهمون