سعى الإنسان منذ نشأته الأولى، إلى تسخير الكون من حوله لمصلحته؛ مستغلًّا كل ما يحيط به في الطبيعة من وسائل وأدوات، وقد اتّسمت هذه العملية بتطورٍ مستمرٍ من جيلٍ إلى جيل ومن عصرٍ لآخر.
في القرن العشرين، أطلق الإنسان على مجمل تلك الأدوات التي سخّرها لخدمته اسم "التكنولوجيا"، وتمّ تعريفها باللغة الإنكليزية على أنّها "الوسائل والنشاطات التي يسعى المرء عن طريقها إلى التلاعب أو التغيير في البيئة المحيطة به".
وبينما يستمر الإنسان بتحقيق مستوياتٍ عالية من التطوّر والتقدّم على كافة الأصعدة التكنولوجية المختلفة، وخاصةً في مجال الآليات والروبوتات، لخدمته وتحسين ظروف حياته في هذا الكون، يرى كثير من النقّاد أنّ لهذا التطوّر الدراماتيكي تأثيراً خطيراً على حياتنا المجتمعية، نحن البشر.
فكان ينظر للتكنولوجيا على أنّها أداةٌ للدفع بعجلة التطوّر إلى الأمام. لكنّ اليوم، فإنّها تهدّد ملايين الموظفين والعمّال وتتربّص بهم لسلبهم عملهم.
مصير القوّة العاملة
وقد سلّط كثير من الأشخاص ذوي المكانة العلمية العالية الضوء على ذلك، فالأستاذ إريرك برينجولفسن، الأستاذ في كلية الإدارة في معهد ماساتشوستس التقني، وزميله أندرو مكافي قضيا السنتين الماضيتين يجادلان حول تلك الحقيقة، ففي رأيهم برأي كثيرين غيرهم، فإنّ التطور التكنولوجي الكبير وخاصةً في مجال الحاسوبية، هو الذي أدّى إلى الركود في نمو العمالة خلال العقد الماضي.
وبينما يجادل بعضهم، أنّ تلك التكنولوجيا هي التي خلقت كثيراً من وظائف العمل وقلّلت من مستويات البطالة، فإنّ كتاب الأستاذين السابقين "السباق ضد الآلة"، نقض تلك الفكرة بشكلٍ موسّع؛ فبحسب اعتقادهما فإنّ التغير التكنولوجي السريع دمّر كثيراً من الوظائف بشكلٍ أسرع مما كان يخلقها، وكان يلغي الشرائح متوسطة الدخل، وبذلك فهو يخلق عدم المساواة في الولايات المتحدة الأميركية. وهما يظنان أيضًا، أنّ شيئًا من هذا القبيل سوف يحدث في البلدان الأخرى المتطوّرة تكنولوجيًا.
وبحسب ستيفين هوكينج، في عمودٍ نشرته صحيفة الغارديان: "إنّ علمية تحويل المصانع من العمالة البشرية إلى العمالة الأوتوماتيكية ساهمت بشكلٍ كبير في تقليل الوظائف وفرص العمل في المصانع التقليدية".
وعلى الرغم من وجود أثرٍ كبير لا يمكن نكرانه للعولمة في سياق تقليل فرص العمل، لكنّ التطور التكنولوجي ومكننة المصانع، امتلكا التأثير المدمّر الأكبر على القوّة العاملة.
الحرب على الطبقة المتوسطة
غيّرت التكنولوجيا نوع الأعمال المتوّفرة، وهذا التغيّر ليس نحو الأفضل دائمًا. فمنذ الثمانينيات استحوذت أجهزة الكومبيوتر على وظائف كثيرة، مثل أرشفة الكتب في المكتبات، والأعمال ذات الطابع المتكرّر في المصانع، فكل تلك الأعمال هي التي كانت توفّر دخلًا للطبقة المتوسّطة. وفي الوقت نفسه، فإنّ الأعمال ذات الدخل الأعلى التي تتطلب الإبداع ومهارات حلّ المشاكل والتي غالباً ما تُدعم من قبل الكمبيوتر، تطوّرت ونمت بدورها.
الأمر لا يختلف بالنسبة للوظائف ذات الدخل المنخفض، حيث ازداد الطلب على عمّال المطاعم، الحرّاس، ومساعدي الصحّة في المنازل، ووظائف أخرى تتطلّب العمل الذي تعدّ عملية مكننته شبه مستحيلة.
ونتيجة ذلك بلا شك، استقطاب القوى العاملة وتفريغها من محتواها من الطبقة المتوسطة، شيءٌ يحدث في كثير من البلدان المتقدّمة في العقود القليلة الماضية.
التكنولوجيا والإنسان
هناك من يرى أن المكننة والتطوّر التكنولوجي، يمكن أن يسخّرا لخدمة الإنسان ودعم خبراته ومهاراته. فعلى سبيل المثال، فإنّ البرامج المكتبية من محرّرات النصوص وأوراق الحسابات والجداول لم تلغِ العمل المكتبي، أو وظائف المحاسبة في الشركات بل على العكس جعلت الموظفين من محاسبين وغيرهم يتعلّمون كيفية استخدام تلك البرامج ليصبحوا أكثر إنتاجية.
هذا الكلام صحيحٌ ولا غبار عليه، لكن لنتخيل الأمر التالي. إنّ الآلات والروبوتات اليوم ليست قادرةً إلا على القيام بالأعمال ذات الطابع المتكرّر في المصانع مثلًا ومع ذلك استطاعت الروبوتات سلب الآلاف من العمال وظائفهم، فما الذي سيحدث عندما تصبح نماذج أخرى متطوّرة من الروبوتات التي بدأت تظهر اليوم، ذات القدرة على التعلّم من بعضها ومن الإنسان متوفرةً ومتاحة في السوق؟.
الروبوت واتسون هو روبوت قادر من خلال برمجة الذكاء الاصطناعي، "تكنولوجيا المتطورة، وقاعدة معلوماتٍ هائلة"، على إعطاء نصائح مختلفة في كافة المجالات، حتى أنه يستطيع تقديم المشورة الطبية الصحيحة عبر الهاتف بدلًا من الأطباء في المراكز الصحيّة.
وبينما يجادل بعضهم في أن عملية التطوّر ستقوم بتحويل المجتمع وتغييره كما هي العادة في العصور الغابرة، فإنّ عملية التحوّل هذه ستكون صعبةً ومؤلمةً بشكلٍ كبير بالنسبة للآلاف من العمال والموظفين من الطبقة المتوسّطة ممن فقدوا عملهم.
فهذا التسارع التكنولوجي الكبير يساهم في تنمية الاقتصاد وخلق الثروة، لكن، وبحسب مكافي، فإنّه لا يوجد قانون اقتصادي ينصّ على أنّ الجميع سيستفيد، وبعبارةٍ أخرى ففي صراعنا مع الآلات فإنّ بعضهم سيربح ويستفيد، لكنّ الكثير منا سيخسر.