التفكير في زمن كورونا

15 مارس 2020
(من حديقة في مدينة هوايان الصينية، فبراير 2020، Getty)
+ الخط -

يهدّد فيروس كورونا بالعودة بالبشرية إلى عالم الضرورة الذي اعتقدنا لزمن أنّنا تخلّصنا منه، أو أننا نتحكّم فيه بشكل مطلق، كما يُهدّد بانهيار بنيان الأبرتهايد، الذي يقسّم البشرية بين من يملك تاريخاً ومن يعيش خارجه، بين جنوب فقير وشمال غني، بين من يملكون ومن لا يملكون.

هل يحق لنا أن نفكر في كورونا فلسفياً؟

يقول الفيروس الجديد الشيء الكثير عن انفصام عرى العلاقة بين الإنسان والطبيعة، ويقول أكثر عن انفصامها بين الإنسان والإنسان، وعن أيديولوجية استهلاكوية، تتلاعب بالمصير البشري، وما يُخيف في كلّ ذلك أنها تحوّلت إلى نوع من الديانة المعاصرة. بل حتى الذين يدينون بآلهة قديمة، لا يدينون بها إلّا من خلال اللغة والفكر والتصوّرات والرموز والأشكال الحياتية التي تُؤسّس لها هذه الديانة الجديدة، سواء كانوا واعين بذلك أم غير واعين.

سيكون لانتشار فيروس كورونا تأثير على تصوّراتنا واعتقاداتنا، ولربما سيكون أول أمر يدفعنا لإعادة النظر به هو تصوّرنا عن الحرية الفردية، بل إن هذا الفيروس وانتشاره، كما سيعبر الفيلسوف الأخلاقي ميشيل ديبويي، إلى جانب التغيّرات المناخية، يؤكّد بأننا نعيش في العالم نفسه، وأنه لا يمكننا تجاوز مخاطره إلّا مجتمعين، وأكثر من هذا، فإن الفيروس برأيه "يعيد الطبيعة إلى مركز اللعبة". لكن هل ستقبل الرأسمالية في نسختها النيوليبرالية بذلك، هي التي اختزلت علاقتنا بموضوعات العالم في الحرب والملكية والاستهلاك؟ أم لربما سترغمها الطبيعة على ذلك؟

يكتب ميشيل سير في "العقد الطبيعي" (1990)، وفي نوع من الرؤيوية، كما لو أنه يكتب عنّا اليوم: "لقد أصبحنا، بحكم تحكُّمنا المفرط في الطبيعة ضعفاء أمامها، حتى إنها تهدّدنا هي بدورها لتسيطر علينا. فمن خلالها ومعها وداخلها نقتسم القدر نفسه. وأكثر من كوننا نملكها، ستملكنا هي بدورها، كما في القديم، عندما كنّا نخضع للضرورات الطبيعية، لكن مع فارق نوعي: في الماضي، كان الخضوع محلياً، أمّا اليوم فسيكون عالمياً. لماذا ينبغي لنا، منذ الآن، البحث عن التحكّم في تحكّمنا؟ لأن تحكّمنا لم يعد منضبطاً ولا مقنّناً، ويتجاوز هدفه، بل أصبح ضد الانتاج. لقد انقلب التحكّم الخالص على نفسه".

وفي لغة هيدغرية، يمكننا أن نقول: "يتوجّب على الفانين بدءاً وباستمرار، البحث عن جوهر السكن. يتوجّب عليهم أن يتعلّموا في البدء كيف يسكنون". (مقالته "البناء، والسكن والتفكير"، 1951). ولربما يتوجّب عليهم بدءاً أن يتعلّموا ما هو أكثر من ذلك، كيف يقتسمون سكنى العالم مع الآخرين، وبلغة أخرى، كيف يتجاوزوا وثنية المكان.

هذا ما سينتبه إليه سلافو جيجك، وإن بعيداً عن هيدغر، وهو يتساءل في مقال حول فيروس كورونا ("حلمي عن ووهان"، صحيفة "دي فيلت" الألمانية، 22. 01. 2020): "لماذا هذا الهوس بفيروس كورونا اليوم، وقد عرفت مناطق من العالم فيروسات أكثر خطورة والآلاف من البشر يموتون يومياً بسبب أمراض أخرى؟"، لكن إذا وافقناه الرأي في مشروعية هذا السؤال، فإننا لا نقتسم رأيه الذي يقول بحاجتنا إلى "شيوعية جديدة" من أجل تجاوز هذا التدمير الرأسمالي المستمر للعالم، لأن الشيوعية هي الأخرى، ابنة العقل الديكارتي الذي يقوم على التحكّم والتملّك، كما وصفه ميشيل سير.

سينشر آجامبن في اليومية الشيوعية "المانفستو" (عدد 26 فبراير، 2020) مقالاً حول الفيروس الجديد بعنوان: "حالة الاستثناء التي أثارها طارئ غير حقيقي"، وفيه يعتبر الفيلسوف الإيطالي بأن الأمر يتعلّق بفيروس أخطر قليلاً من أنفلونزا عادية، وأنّ الإجراءات التي اتخذتها الحكومة الإيطالية مبالغ فيها، بل هي نتيجة لنية مبيّتة، تهدف إلى توسيع مدى السيطرة على المواطنين والحد من حريتهم.

إنّ مقاله يذكّرنا بما كتبه في "حالة الاستثناء"، الذي ظهر بُعيد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، مؤكّداً أن حالة الاستثناء التي يتمّ فيها تعليق العمل بالدستور أو القانون، أضحت حالة دائمة، وليست استثنائية، إذ حسب آجامبن، فبعد استهلاك سردية الإرهاب كسبب لاتخاذ إجراءات فوق أو خارج القانون، فإنّ اختراع فيروس جديد، يمكن أن يوسّع من مدى السيادة بشكل يتجاوز كل حدود. لكن المقارنة هنا بعيدة عن الواقع، فصناعة الإرهاب موجّهة، ومتحكّم فيها، وهو ما لا يمكن أن نقوله عن فيروس كورونا.

وفي الواقع، فإن الأمر في رأينا، أكبر من مجرّد حالة استثناء عادية، ونظرية آجامبن لن تسعفنا لفهم هذه الظاهرة الجديدة ولا تلك الظواهر الأخطر التي تنتظرنا في المستقبل، والتي لن تهدد فقط بإلغاء السياسة. بل سنكون مضطرّين هذه المرّة، ومن هنا فصاعداً، أمام حالات الاستثناء القادمة، إلى أن نضع الطبيعة وحقوقها، وليس السيادة، فوق القانون، وفوق حقوق البشر أو بالأحرى حقوق السوق.

إن الطبيعة تجبرنا اليوم على أن نصغي لها في تواضع، وأن نختار بين الوجود أو التملّك.

المساهمون