التعليم العالي والبحث: إشكالية اللغة

12 يوليو 2015
في مكتبة الجامعة اللبنانية، بيروت 2009 (Getty)
+ الخط -
يعزو البعض سبب هيمنة اللغة الإنجليزية، وبالتالي تهميش أو إزاحة اللغة العربية في مجال البحوث، إلى "الإمبريالية" الثقافية. وتناولت هذه الإشكالية دراسات ما بعد الكولونيالية، حيث اعتبرت أن الاستعمار قد استخدم الرصاص كوسيلة لإخضاع الجسد، واللغة كوسيلة لإخضاع الروح. وقد أعلن الروائي الكيني الشهير، نكوكي واثيانكو، في كتابه "إنهاء احتلال العقل"، أنه لن يكتب رواياته باللغة الإنجليزية وإنما بلغة الأكبو (Igbo) الموحّدة. إلا أن هناك تبسيطاً تلجأ له دراسات ما بعد الكولونيالية في تفسيرها للأمر، فنرى على سبيل المثال، رد الروائي والناقد الأدبي شنوا أشيبي (Chinue Achebe)، على واثيانكو أنه حتى هذه اللغة هي صنيعة الاستعمار البريطاني ومبشريه الذين اختزلوا اللغات المحلية الى لغة موحدة، وأن الكتابة بالإنكليزية هي وسيلة لـ"اختراق" صفوف العدو وتحطيمه من الداخل.

لقد قمت، في 2012، بإجراء استبيان استهدف 165 شخصاً، نصفهم تقريباً حاصل على شهادة الماجستير، والنصف الآخر حائز على شهادة الدكتوراه، أغلبهم في العلوم الاجتماعية، وقد نال 66 في المئة شهاداتهم من جامعات عربية، بينما حصل الباقون على شهاداتهم من دول أجنبية، ومحور موضوعها العالم العربي. لقد أكدت النتائج استخداماً شبه حصري للمراجع العربية في الأطروحات التي يكتبها الباحثون العرب الشباب في بعض الجامعات الوطنية (حيث لا يتقن الطالب لغة أجنبية)، أو الى استخدام محدود للمراجع العربية. وجدت أيضاً أن هناك مشاكل في الحصول على المراجع والتي تتمثل في ضعف الموارد في المكتبات الجامعية الوطنية، والرقابة ومنع الكتب العربية من الولوج للسوق خارج بلد النشر. كما اعتبر المستبينون أن ما يقرب من 30 بالمئة من المراجع هي باللغة الأجنبية، في مقابل 40 بالمئة من المراجع باللغة العربية.

لقد أظهر هذا الاستبيان جلياً أن الطالب الذي أتقن اللغة الأجنبية من خلال التعليم المزدوج بالعربية والأجنبية في المرحلتين، الثانوية أو الجامعية، يستطيع أن يستخدم المراجع العلمية بشكل أكثر توازناً من أولئك الذين تعلّموا بلغة واحدة، سواء كانت العربية أو الأجنبية، إذا لم يتم تهميش اللغة العربية. وفي الوقت نفسه يستفيد الباحث من الدراسات الأجنبية التي تتسم في حداثتها ومواكبتها لنظريات وإشكاليات عالمية.

اذاً، ليس المطلوب حصر مشكلة التعليم العالي بخيارين: إما التدريس كلياً باللغة العربية، أو كلياً باللغة الأجنبية، ولكن السؤال هو، كيف يمكن في مرحلة انتقالية اعتماد التدريس باللغتين، مع إعطاء اللغة العربية الأولوية، وذلك في كل البرامج والأقسام، وليس فقط في العلوم الاجتماعية؟ ونتحدّث هنا عن مرحلة انتقالية، لأنه إذا تم التسريع في عملية الترجمة، وأصبحت الكتب والمقالات باللغة العربية متوفرة في المكتبات العامة والجامعية وبنوك المعلومات، فربما لن تكون هناك حاجة عندئذ إلى التدريس بأية لغة غير العربية، مع إبقاء الحرص على ضرورة إتقان لغة أجنبية واحدة على الأقل من قبل الطالب العربي.

وبالرغم من أن اللغة تعتبر سمة (Marker) عالية الرمزية للهوية، فإن الباحثين يتمتعون بهويات متعددة الطبقات، تتيح لهم إمكانية الانفتاح، واستيعاب أكثر من لغة، كما تتيح لهم إمكانية الاهتمام بالبحث والشعور بأنهم معنيون لا بالسياقين المحلي والمناطقي فقط، بل بالسياق العالمي أيضاً. وبالتالي تعتبر لغة التدريس، كمكوّن ثقافي وسياسي، مرتبطة بتشكيل الهوية أو بالحصول على الاستقلال السياسي، وفي الوقت نفسه هي أيضاً مكوّن اقتصادي ـ سياسي في عملية استحضار المشاكل المرتبطة بندرة المصادر التي تحدّ من عملية إنتاج الكتب التدريسية اللازمة. إذاً، هناك أسواق مختلفة للغات المختلفة، الأمر الذي يجعل من اللغة الإنكليزية لغة بالغة الأهمية بوصفها أداة للتدريس. ولكن الحاصل في البلدان العربية هو استبدال اللغة العربية في الجامعات المستحدثة أو الخاصة كلياً بالانكليزية، ولا نرى بأن هناك موجب لوجود منهج يخلو تماماً من مراجع منشورة باللغة العربية.

(أستاذ علم الاجتماع، الجامعة الأميركية ـ بيروت)
المساهمون