التطرف .. والتطرف المضاد

19 نوفمبر 2015
+ الخط -

مضى نحو عقد ونصف، على أحداث "11 سبتمبر" في الولايات المتحدة، من دون أن نعرف بعد، وعلى وجه اليقين النهائي، ما الذي حدث بالضبط. انفجرت الطائرتان في البرجين، وانفجر معهما العالم كله في عصفٍ جنوني غير مسبوق من الأخبار والوجوه والأسماء والحكايات والصور والسيناريوهات والمفارقات والتحليلات والأفلام والمقالات والأسرار، وأكوام أخرى من المواد الإعلامية المختلفة التى كانت تلف وتدور حول بؤرة واحدة، صارت، في ما بعد، الركيزة الأساسية لكل الاتهامات التي أدين بها الإسلام، قبل أن يدان المسلمون المتهمون بالتفجير، ديناً وثقافة وفكراً وأفراداً وبلاداً. كانت التهمة جاهزة كإدانة؛ "الإسلام دين الإرهاب والمسلمون، كل المسلمين، إرهابيون وكفى". هذه هي النتيجة والوحيدة التي سادت، منذ ذلك الحدث الرهيب، والذي ما انفك معظم العرب والمسلمين يدينونه، ليس في حينه وحسب، بل مع كل موجة عنف أو حادثة تطرّف جديدة، سواء أكان للعرب والمسلمين علاقة مباشرة، أو غير مباشرة، أو ليس لهم علاقة بها على الإطلاق. ويبدو أن ذلك لم يعد مجدياً ولا كافياً، فتطور إلى أن ينساقوا في موجةٍ لا إرادية من الاعتذار للعالم كله، كلما أقدمت ثلة منهم، أو حتى من غيرهم، بعدوانٍ مرجعه التطرف وحده.

في تفجيرات باريس، أخيراً، بدأ السيناريو القديم يتجدد، وينفض عن نفسه غبار السنوات العربية/ الإسلامية الأخيرة، في إطار ثورات الربيع العربي، وما قدمته من  صور ونماذج إيجابية، عصرية وفاعلة للإنسان العربي المسلم. فما أن انتشر خبر التفجيرات، حتى عدنا، نحن العرب والمسلمين، إلى مربعنا الأول بين البرجين اللذين انفجرا في نيويورك، بلا معنى واضح.

ما أثارني حقاً في تداعيات تفجيرات باريس ليس ذلك الانسياق الجمعي، تقريباً، وراء الخبر الفرنسي، جلداً للذات، واعتذاراً للآخر على جريمةٍ، يفترض أن منفذيها عرفوا، منذ الساعات الأولى، وحسب، بل في تبرير ردود فعل فرنسيةٍ مجتمعية ورسميةٍ، انتقامية تجاه الجميع أحياناً، وتشجيع المزيد منها، واقتراح صيغ أخرى لها، مستمدة من تجارب الشرق الأوسط أحياناً أخرى.

فرنسا بلاد الحرية، وباريس عاصمة النور، والفرنسيون مثقفو أوروبا.. حسناً، نعرف كل هذه العناوين الأنيقة، ونؤمن بها. ولكن، ما نفعها إن كان ناتجها، في النهاية، أفعالاً انتقامية، لا تختلف كثيراً عن الأفعال السائدة، كسياسة مثالية في كثير من بلدان العالم الثالث، حيث القمع والإرهاب والتطرف والمذهبية والذبح على الهوية؟

ما جدوى النور والحرية والعدالة والتسامح والثقافة، إن تساوت في نتائجها النهائية مع الظلام  والتعسف والظلم والتطرف والجهل؟

مثير للسخرية حقاً أن نرصد، هذه الأيام، دعوات ضد المنطق لمحاربة القمع ومحاربة التطرف بمزيد منه، ومحاربة الجهل باستعارة أدواته واستخدامها، بعد إضفاء شرعية مزيفة عليها، وبتلك الحجة نفسها التي ولدت يوم 11 سبتمبر/أيلول 2001، واستمرت بإعادة إنتاج نفسها لاحقاً، حتى بلغ بها الأمر، تسهم في سجن وتعذيب أبرياء سنوات عديدة بلا محاكمة ولا إدانة.. في معتقل غوانتنامو الأميركي الشهير.

نعم.. نحب باريس، ونحب لوفرها وإيفلها وثقافتها وفنونها ومتاحفها وكتبها ومسارحها وتشكيلها ومعمارها وتاريخها العريق. نحب عطورها الراقية، وأزياءها الأنيقة... ولكننا نحب أولاً ديمقراطيتها وحريتها وانفتاحها وتسامحها وقبولها الآخر، أكثر من كل شيء آخر. نحبها وهي باريس، ولا نريد أن تتحول إلى عاصمة من عواصم بلاد القمع والجهل والديكتاتورية والطغيان، بحجة حمايتها من المتهمين، أولاً ودائماً وإلى الأبد، لمجرد أن هناك من قرّر أن يستثمر فكرة التعميم إلى أقصى طاقتها ضد العرب والمسلمين وحسب.

لا يمكن تبرير التطرف الذي يودي بحياة الأبرياء، ويدمر العمران، على النحو الذي حدث في باريس بأي شكل، ولا يمكن قبوله باعتباره انتقاماً من سياسات الدول والحكومات، هنا وهناك. ومن هذا المنطلق نفسه، نرفض أن تتحول إدانتنا الشديدة التطرف إلى تطرف مضاد.

CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.