التضامن الشعبي البريطاني: أصله ومداه وعقباته

لندن

إياد حميد

إياد حميد
29 يوليو 2018
B5B72D73-1538-43C7-971A-1AF9E0678C43
+ الخط -
تعد بريطانيا من أكثر الدول التي تشهد أنشطة مناصرة للقضية الفلسطينية في العالم الغربي على الصعيد الشعبي، وذلك رغم مسؤوليتها التاريخية عن مأساة الشعب الفلسطيني، ودعمها المستمر لدولة الاحتلال الإسرائيلي. وكان الدعم الشعبي البريطاني لفلسطين قد وصل إلى ذروته في السنوات الأربع الماضية، عندما خرج أكثر من مائة ألف متظاهر ضد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة عام 2014، وصولاً إلى انتخاب جيريمي كوربن رئيساً لحزب العمال، وهو المعروف بدعمه لحقوق الشعب الفلسطيني رغم تناقض كبير في مواقفه بشأن الحريات للشعوب العربية. والمناصرة البريطانية للقضية الفلسطينية ليست حديثة العهد، ولكنها مرت بعدة مراحل مرتبطة بمحطات تاريخية حاسمة ذات صلة بالتطورات السياسية في الشرق الأوسط بشكل عام، وفلسطين بشكل خاص.
وتعتقد رفقة برنارد، مديرة الحملات في منظمة "وار أون وانت" البريطانية، في حوار لها مع "العربي الجديد"، بأن بدايات الدعم الشعبي البريطاني للقضية الفلسطينية تعود إلى السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، وتجد جذورها في التضامن الدولي للحركات النقابية البريطانية ذات التوجه اليساري مع حركة التحرر الوطني الفلسطينية. فالحركات الفلسطينية، مثل فتح والجبهة الشعبية، عملت في تلك الفترة على مد جسور التعاون مع الجهات اليسارية الدولية. بينما تمتلك النقابات البريطانية، والمنظمات الخارجة منها، ومثالها "وار أون وانت"، تاريخاً حافلاً في دعم الحركات المطالبة بالعدالة الاجتماعية والتحرر الوطني، وخاصة النضال ضد نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.
وتعتقد برنارد أن عمل النقابات البريطانية المعارض لنظام الفصل العنصري مهد الطريق لدعم حركة التحرر الوطني الفلسطيني. إلا أن الاجتياح الإسرائيلي للبنان والانتفاضة الأولى في الثمانينيات شكلا علامة فارقة في تطور الدعم الشعبي البريطاني لفلسطين، بناء على القاعدة الموجودة من التضامن اليساري النقابي. كما لا يقل أهمية عن ذلك عمل حكومة مارغريت ثاتشر المحافظة على قمع العمل النقابي في الفترة ذاتها، وهي الحكومة التي ربطتها علاقة وثيقة بالجانب الإسرائيلي، ما دفع العديدين إلى التضامن مع الجانب الفلسطيني.
إلا أن مناصرة فلسطين في بريطانيا ارتبطت بالمحطات التاريخية التي مرت بها القضية الفلسطينية، والتي كان أبرزها اتفاقية أوسلو. فقد أدى تبدل طبيعة النضال الوطني الفلسطيني في التسعينيات إلى دخول حركة التضامن في مرحلة من الضياع، لم تستعد جذوتها حتى الانتفاضة الثانية، وعودة صور القمع الإسرائيلي للشعب الفلسطيني لتغزو وسائل الإعلام. بينما كان لحملة مقاطعة الاحتلال التي انطلقت عام 2005 دور مفصلي في العمل المناصر لفلسطين في بريطانيا، حيث أعادت تأطير العمل الشعبي البريطاني لخدمة أهداف قادمة من صلب العمل الوطني الفلسطيني. وشهد العقد الأخير أيضاً حسم الجدل الداخلي في النقابات البريطانية لصالح دعم القضية الفلسطينية في وجه التعاون مع إسرائيل، حيث انتصرت الرؤية اليسارية المؤيدة للعمل مع حركات التحرر والمناهضة للاستعمار، والتي وجدت الدعوة لحملة المقاطعة استمراراً طبيعياً لنشاطها في العقود الماضية، وفقاً لبرنارد.
ولكن الدعم الشعبي البريطاني لا يقتصر على الحركات النقابية. بل يمتد إلى شرائح مجتمعية أخرى، برز نشاطها في السنوات القليلة الماضية أيضاً. فالجاليات المسلمة، سواء على مستوى الأفراد أو المنظمات، ترى في القضية الفلسطينية قضية إسلامية يجب على جميع المسلمين الدفاع عنها. بينما يرى أبناء الجيل الثاني والثالث من المهاجرين من الدول العربية والمسلمة إلى بريطانيا، في القضية الفلسطينية مدخلاً لسماع أصواتهم واندماجهم في الحياة السياسية البريطانية. فهي توفر متنفساً للتعبير عن معارضتهم للسياسة البريطانية، ليس على الصعيد الفلسطيني فحسب، وإنما ضد التشكيك بانتمائهم إلى بريطانيا التي ولدوا فيها، والمراقبة المستمرة لأنشطتهم من منطلق "مكافحة الإرهاب".
ووجد هؤلاء الفرصة في الجامعات البريطانية، التي شهدت حركة طلابية نشطة جداً، وخاصة في عامي 2010 - 2011، ضد سياسات التقشف ورفع الرسوم الجامعية. وتعتقد برنارد أن وجود حركات شعبية نشطة يترافق دائماً مع صعود الدعم للقضية الفلسطينية، وعندما تخمد هذه الحركات، نرى تراجعاً على صعيد النشاط المناصر لفلسطين.
كما توجد شريحة أخرى من المؤيدين لفلسطين، والذين ينظرون إليها من ناحية إنسانية خيرية، وترتبط بعمل المنظمات التنموية، مثل أوكسفام، والتي تنظم عدة مشاريع في فلسطين وبالتعاون مع الفلسطينيين، أو منظمات دينية مسيحية ترى ضرورة لوضع حد للنزاع في الأرض المقدسة. وتضاف إلى هؤلاء مجموعات محلية متعاطفة مع القضية الفلسطينية شكلت في الثمانينيات حملة التضامن مع فلسطين.
إلا أن برنارد تعتقد بأن الدعم للقضية الفلسطينية القادم من التعبير الهوياتي لأبناء الجاليات المسلمة أو من المقاربة الخيرية له محدداته التي تجعله دون العمل القادم من التوجه اليساري النقابي. فبرنارد ترى ضرورة تحويل التعاطف القادم من هذين التيارين إلى عمل ينصب تركيزه على محاسبة الاحتلال. فلا تكفي فقط المشاركة في مظاهرة أو التبرع بالمال، رغم أهميتهما. فدعم الفلسطينيين بنظرها لا يأتي بدافع الشفقة على شعب مغلوب على أمره، فالنضال الفلسطيني أنجز الكثير في وجه آلة استعمارية حاولت سحقه في العقود الماضية.
ولذلك ترى برنارد أن التحرك البريطاني يجب أن ينصب على أوجه تحد من القمع الذي يمارسه الاحتلال الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، ومثاله مطالبة "وار أون وانت" بامتناع الحكومة البريطانية عن بيع السلاح وشرائه من دولة الاحتلال، إضافة إلى مقاطعة الشركات والمصارف التي تستثمر في تجارة السلاح هذه أو تعمل مع سلطات الاحتلال. وتعتقد برنارد أن مثل هذه الخطوات العملية أفضل من المواقف السياسية المطالبة بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، رداً على الخروقات الإسرائيلية. فالاعتراف بدولة فلسطينية لن يمنع إسرائيل من قتل الفلسطينيين، بل إن مثل هذه الخطة تتجاهل الفلسطينيين خارج حدود الضفة الغربية وقطاع غزة. كما تعتقد برنارد أن هيمنة حل الدولتين على رؤية المناصرين لفلسطين ساهمت في تضييق مساحة التضامن التي كانت موجودة في الثمانينيات، والتي دعمت حق الشعب الفلسطيني ككل في تقرير مصيره.
وترى برنارد أن تركيز عدد من الجهات المناصرة لفلسطين على الزاوية الحقوقية يدفع أيضاً باتجاه نزع الوجه السياسي للصراع في فلسطين، وذلك على الرغم من فائدة اللجوء إلى مثل هذه المقاربة في مواجهة القمع الإسرائيلي. فحركات التحرر غالباً ما لجأت إلى قوانين حقوق الإنسان الدولية للدفاع عن شعوبها، وهي استراتيجية جيدة للبناء عليها، ولكن يمكن للقوانين أن تكون خاطئة وبحاجة لإصلاح. وترى برنارد أن الضغوط التي تتعرض لها الحملات المناصرة لفلسطين في بريطانيا، وخاصة تهمة معاداة السامية التي ترمى في وجه منتقدي سياسة الاحتلال، دفعت باتجاه لجوء العديد من المدافعين عن الفلسطينيين إلى الالتزام بلغة قانونية يمكنهم الدفاع عنها.
وتضاف إلى ذلك العديد من العقبات التي تواجهها الحملات الداعمة لفلسطين، والتي تنبع من الوضع الداخلي البريطاني، وأيضاً من جهود جماعات الضغط الصهيونية. فالظروف التي تمر بها بريطانيا منذ الأزمة الاقتصادية عام 2008، وما تبعها من سياسات تقشف في عهد حكومات المحافظين المتتالية، إضافة إلى تصويت بريكست وتبعاته، تدفع بالمواطن العادي إلى الإحساس بالغلبة على أمره وتدفعه إلى الابتعاد عن النشاط التضامني السياسي.
ويزيد من صعوبة الموقف الضغط الإسرائيلي على الحكومة والمؤسسات البريطانية من خلال جماعات الضغط المؤيدة لها. فالحكومة البريطانية كانت قد منعت المجالس البلدية البريطانية من مقاطعة دولة الاحتلال، وذلك رغم تمكن العديد من المجالس البلدية من المناورة من خلال تقديمها أدلة على خروقات إسرائيل للقانون الدولي، وهو ما يمكنها عملياً من تقديم تبرير لمقاطعتها لإسرائيل.
لكن الجهود الإسرائيلية لا تقتصر على حملة المقاطعة، بل استهدفت حظر المنظمات الداعمة لفلسطين، والتي تشمل أيضاً وار أون وانت. كما أنها تستهدف النشاط الطلابي في الجامعات وتضخم أصغر العثرات لإرهاب النشطاء وردعهم عن العمل لصالح القضية الفلسطينية. وترى برنارد أن استراتيجية القمع هذه تدفع العديدين إلى ممارسة الرقابة الذاتية، والتي تؤدي بالمؤسسات البريطانية، مثل الجامعات، إلى منع الانتقادات ضد إسرائيل من تلقاء نفسها.
وأخيراً ترى برنارد أن تهمة العداء للسامية، والتي هي مشكلة حقيقية، يتم إلصاقها بالمدافعين عن فلسطين والمناهضين للاحتلال، بدلاً من توجيهها ضد مرتكبيها حقاً في أوساط اليمين المتطرف الفاشي الصاعد حديثاً، والذي يمتلك مواقف عنصرية ضد اليهود والمسلمين وغيرهم. وترى برنارد أن الحركات الشعبية قادرة على تحدي هذه الظاهرة، رغم هيمنة اليمين المحافظ على بريطانيا والولايات المتحدة، والتقارب بينهما نتيجة رغبة بريطانيا في الحصول على علاقة تفضيلية مع الولايات المتحدة بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي.

ذات صلة

الصورة
ما تركه المستوطنون من أشجار مقطوعة ومحصول مسروق في قرية قريوت (العربي الجديد)

سياسة

تعرضت الأراضي الزراعية في موقع "بطيشة" غربي قرية قريوت إلى الجنوب من مدينة نابلس لهجوم كبير من المستوطنين الذين قطعوا وسرقوا أشجار الزيتون المعمرة
الصورة
جنود الاحتلال قرب مقر أونروا في غزة بعد إخلائه، 8 فبراير 2024 (فرانس برس)

سياسة

أقر الكنيست الإسرائيلي، مساء اليوم الاثنين، تشريعاً يحظر عمر وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين التابعة للأمم المتحدة (أونروا) داخل الأراضي المحتلة.
الصورة
آلية عسكرية إسرائيلية قرب حدود قطاع غزة، 6 أكتوبر 2024 (ميناحيم كاهانا/فرانس برس)

سياسة

شهر أكتوبر الحالي هو الأصعب على إسرائيل منذ بداية العام 2024، إذ قُتل فيه 64 إسرائيلياً على الأقل، معظمهم جنود، خلال عمليات الاحتلال في غزة ولبنان والضفة.
الصورة
روبى بورنو ترتدي قلادة فلسطين (يوتيوب)

منوعات

ارتدت مسؤولة تنفيذية في شركة أمازون قلادة تحمل الخريطة التاريخية الكاملة لفلسطين ما قبل الاحتلال الإسرائيلي. وتسبّب هذا المقطع في هجمة شرسة ضدها.