اعترف محمد شكري في حوار مع جريدة إلباييس الإسبانية، أجراه معه الصحافي الإسباني خافيير بالانثويلا، يوم 5 أكتوبر 2002، بأنه مدين للغة الإسبانية، التي كان يُتقنها، بقراءته للأدب العالمي، ليس الإسبانيّ اللسان وحده، بل الأوروبي والأميركي أيضاً. لذلك شبَّه شكري اللغة الإسبانية بالنافذة التي أطلَّت عيناه من خلالها على الأعمال الكبرى، التي ساعدته عصاميته في الإفادة منها، فاجترح لذاته أسلوباً متميِّزاً في الكتابة والحياة.
هكذا، يؤكّد مثال شكري دور الوساطة الذي تنهض به الترجمة، التي تتمثَّل، في أبسط تعريف لها، فعلاً توسّطياً تواصليًّاً بامتياز.
وإذا كان التوسّط عملية تعرَّف بها صاحب "الخبز الحافي" على الأدب العالمي، فإن من المترجمين من وظَّف لغة ثانية وسيطاً في إطلاع القرّاء في عالمنا العربي على نماذج مرموقة من الأدب العالمي؛ ويُمكن نعت هذا الصنف من الترجمة بـ"الدرجة الثانية"، لأنها ترجمة ثانية وتالية، بحكم أنها لم تصدر عن الأصل مباشرة، بل توسَّلت بترجمة أولى، ومنها الأعمال التي أنجزها المترجم السوري الشهير سامي الدروبي الذي أطلعنا على روائع الأدب الروسي، خصوصاً دويستوفسكي، من خلال الترجمة عن اللغة الفرنسية، والشاعر المغربي المهدي أخريف الذي توسط باللغة الإسبانية كي يقدم للقارئ العربي روائع للبرتغالي فيرناندو بيسوا التي على رأسها كتاب "اللاطمأنينة".
ولطالما أثارت الترجمة عبر لغة وسيطة نقاشات وانتقادات، لعل أبرزها في العقد الأخير ما أعقَب إصدار "دار توبقال" المغربية، سنة 2009، لترجمة مختارات من أشعار الألماني هولدرلين، أنجزها المترجم المغربي حسن حلمي، وقدّم لها الشاعر محمد بنيس، والتي انتقدها الشاعر اللبناني عبده وازن، لكونها ليست من الدرجة الأولى، أي ليست ترجمة عن الألمانية مباشرة، بل عبر جسر الإنكليزية، وهي مناسبة اهتبلها لينتقد ترجمة المهدي أخريف لبيسوا أيضاً، لأنها هي الأخرى مرّت إلى العربية عبر الإسبانية، وليس عبر البرتغالية مباشرة.
ولا يخفى أن موقف الشاعر اللبناني يصدر عن تمثّل التّرجمة من الدرجة الثانية باعتبارِها خيانة مضاعفة، لأنها وفقه "لم تتم انطلاقاً من اللغة الأم، بل عبر لغة وسيطة، وهذه ترجمة خائنة بامتياز بحسب علم الترجمة وأخلاقياتها"، أي أنها ليست ترجمة مباشرة عن اللغة الأصل، وإنما ترجمة اتخذت لغة أخرى واسطة، ولم يلتفت وازن إلى تجارب عالميّة أمتعت القرّاء منذ قرون بروائع لا تزال تحتفظ بقيمتها للآن. وتشهَد كثير من الأمثلة على ذلك، لعل أبرزها حال الترجمة التي خضع لها الإنجيل عبر تحوّلات وانتقالات عديدة قبل أن يستقر على حاله في لغات أوروبا المحلّية.
ولا غرو أن ما لا يُنتبه إليه عند طرح قضية الترجمة بالواسطة هو مشكل الفهم؛ لأنه في الترجمة المباشرة يكون ما يقرأ هو فهم المترجِم الأوّل أو تأويله للأصل، بينما في الترجمة غير المباشرة فالذي يؤوَّل هو فهم المترجِم الأول، وليس المؤلِّف، وفي ذلك ابتعاد بيّن عن الأصل.
ويبدو أنّ عبده وازن لم ينتبه إلى تجارب عالمية مهمة جداً أغنت كثيراً من الثقافات، والتي لم تجد غضاضة في الإفادة عبر الترجمة غير المباشرة من الآخر، فهذا المكسيكي أوكتافيو باث أنجز ترجمات شعرية عن لغات الشرق الأقصى مثل اليابانية والصينية وحتى عن السويدية. وفعل مُواطِنه الشاعر إِميليو باشيكو الشيء نفسه بترجمته لقصائد عن البولونية أو الإغريقية الحديثة، بل إنّ كثيراً من ترجمات محمد شكري إلى لغات العالم اعتمدت الترجمة الفرنسية أكثر من الأصل العربي.
ومعلوم أن الاقتباسات العالمية التي أتحف بها المنفلوطي القراء العرب، والتي تتلمذت عليها أجيال كثيرة، هي في الواقع ترجمات من الدرجة الثانية، لأنها غير مباشرة، بحكم اعتمادها العامية المصرية واسطة بين الفرنسية والعربية بالصياغة البيانية للمنفلوطي. والطريف هو أن ترجمات المنفلوطي غدت أصلاً ترجم عنه إلى لغات أخرى شأن كتاب "العَبَرات" الذي ترجمه إلى الفارسية باقر المنطقي التبريزي تحت عنوان "قطره هاي إشك".