الترجمة كضرورة

29 أكتوبر 2015
الهدف الأساسي لكل ترجمة هو إقامة علاقة مع الآخر(Getty)
+ الخط -
كثيرًا ما تُقدّم الترجمة باعتبارها فعل حب، وعلامة انفتاح، وتسامح، وتستحضر برقة وحنين العهود التي ازدهرت فيها. بغداد في القرن الثالث والرابع للهجرة/ التاسع والعاشر للميلاد، طليطلة في القرن الثاني عشر الميلادي، وفقًا للباحث المغربي عبد الفتاح كيليطو، غير أن الواقع أقل مثالية. فالترجمة غالباً ما تعمل في سياق من التباري والمنافسة.


شعوب كثيرة لا تقبل أن تترجم نصوصها المقدسة، معتبرة العبور من لغة إلى أخرى اعتداء، ويؤكد صاحب "الأدب والغرابة" أنه يوجد في مبدأ الترجمة ميل سجالي (من المساجلة في الحرب) بل مطمع إمبريالي. "الترجمة غزو"، كما قال نيتشه. الترجمة هي غزو أرض أجنبية، وطرد ساكنيها أو إخضاعهم، وامتلاك خيراتهم وكنوزهم. وحين لا يمكن القضاء على مقاومتهم، يكتفى باجتياحات سريعة أو ببعث جاسوس متنكر في هيئة عالم يعود بنسخ من إنتاجهم الفكري، كما حل لكليلة ودمنة.

وهناك من يعتبر أن المقدس يقاوم "غزو" الترجمة، "لأن الفضاء الذي يحتاجه في اللغة الهدف غالباً ما يكون ممتلئاً سلفًا بمعجم متاح مسبقًا ومشحون ثقافيًا بإحالات محلية. وهذا ما يدفعنا لأن نفهم ذلك السطح البيني الثقافي الذي يحتاج الترجمة، لكنه يتحداها في الوقت ذاته"، إن البحث عن روحانية جديدة، أو السعي وراء الحقيقة، بل وعدم الرضا عن الأديان المألوفة هو ما جعل نصوصًا مقدسة بديلة موضع بحث وتمحيص على مر العصور الماضية، بتعبير لينين لونج، "أما اليوم فإن ضرورة فهم كيفية عمل الثقافات الأخرى من أجل العيش معًا بسلام هي التي تجعل قراءة مثل تلك النصوص وترجمتها الدقيقة أمرين حاسمين".

إن الهدف الأساسي لكل ترجمة هو إقامة علاقة مع الآخر على مستوى المكتوب وإخصاب الثقافة الخاصة عبر تلاقحها مع الثقافة الأجنبية، ويؤيد هايدغر الترجمة كضرورة بقوله: "إنه إن كانت عملية الترجمة تلاقيًا ما بين لغتين، وتجعلهما تدخلان في حوار بينهما، فإن ذلك لا يشكل العنصر الجوهري للترجمة.. لأن الكلام نفسه، إذا نطق به، وكتب داخل اللغة الأم، يكون في حاجة إلى تأويل. وبالتالي، فإن هناك بالضرورة ترجمة، وذلك داخل اللغة الأم ذاتها".

اعتبر الإيطاليون الترجمة خيانة، كنوع من التشهير بالترجمة، بخلاف جاك دريدا، الذي اعتبر النص المترجم محظوظًا، كيفما كانت نوعية ترجمته، فليس المترجم هو المدين لصاحب النص الأصلي، بل إن هذا الأخير هو المدين لمُترجِمه، وهي إشادة صريحة من الفيلسوف الفرنسي بالدور الحضاري للمترجمين، الذين يعبرون تخوم الثقافات ذهابًا وإيابًا بلا كلل، وينعشون ذاكرة الأمم، كما يصفهم د. عبدالله إبراهيم، ويبدي تخوفه من أن يستبد "هوس الترجمة" بعابري الثقافات: "لكن ماذا لو بالغ المترجم في صدقه، وصمّ أذنيه عن الأهواء، ورغب في استكمال شروط الترجمة إلى درجة يجعل منها لبوسًا لا ينزع عنه، فيفكّر فيها دومًا، بل ويحلم بها حيثما يكون؟ يرجّح بأنه سوف يصاب بهوس الترجمة؛ وربما جنون الارتياب بكل ما يقوم به، والأدعى إلى الكمد أنه قد يكون ضحية خبل لغوي جارف لا تنفع معه أية مقاومة، فيقع ضحيّة إغراء دائم في البحث عن المقابلات اللغويّة، والمماثلات الثقافية، وينتهي الأمر به حائراً لفرط أمانته، فلا يفتأ يسبح عابراً ضفاف اللغات دونما توقف ملتمسًا السلوان في ذلك الإبحار البهيج بين الألسن.

وينتهي به الأمر متطابقًا مع النصوص التي يترجم عنها، وتلك التي يقوم بإنشائها، منتحلًا هوية العابر أبدًا بين ثقافات الأمم".

لكن ماذا عن ازدواجية اللغة، أو اللسان المفلوق.. لسان الأفعى، تلك الاستعارة التي فُتن بها عبد الفتاح كيليطو؟ إنه يؤكد أنه حين نتكلم لغة (أو عن لغة)، فنحن نلحق الضيم بالأخرى، والمؤكد المعلوم أن هذه الأخيرة لا تنتظر سوى لحظة الثأر، ويستشهد بالجاحظ الذي جزم أنّ كاتبًا لا يمكنه أن يبرع في لغتين، أنّ التقدّم الملاحظ في الأولى يتمّ بإدخال الضرر على الأخرى، بعبارة ثانية، إنّ مزدوج اللغة لا يملك من اللغتين إلاّ نصفهما؛ بمعنى أنّه لا يتمكّن ولا يسيطر على أيّة واحدة منهما. سواء كتب باللغة العربية أو باللغة الفرنسية، فهو يعاني من فجوة، من نقصان، من شعور بالنّقص. ويخسر في النهاية على الجانبين.

الجاحظ لا يعرف إلاّ العربية، لم يكن في حاجة إلى لغة أخرى ليرضي فضوله الأدبي والعلمي فائق الحدّ. لكن الصّحيح أيضًا أنّ المؤلفيْن اللذين يحظيان بإعجابه أكثر، الشاعر أبا نواس والناثر ابن المقفع، كانا من ذوي اللسانين.


(المغرب)
المساهمون