التحول في خطاب روحاني: إعلان يأس من الداخل والخارج

07 مارس 2019
تصعيد روحاني يأتي في إطار استراتيجية "توحيد الخطاب" (الأناضول)
+ الخط -


"العدو" أو "الأعداء"، مفردات رددها الرئيس الإيراني، حسن روحاني، أكثر من مرة وبشكل ملفت للنظر، أمس الأربعاء، في خطاب أمام مواطنين في مدينة رشت شمالي إيران، وذلك في إشارة إلى أميركا والدول المتحالفة معها، إقليمياً ودولياً، ضد بلاده. تلك الكلمات التي استخدمها روحاني بالأمس أكثر من 15 مرة في خطابه تشكل جزءاً ثابتاً من الأدبيات الثورية الإيرانية، ولم تغب يوماً عن خطابات المرشد الإيراني علي خامنئي، وأبناء التيار المحافظ في إيران، إلا أنها لم تحتل حيزاً في أدبيات روحاني السياسية منذ توليه الرئاسة في عام 2013. لكن من اللافت للنظر أن نجدها اليوم حاضرة بقوة في خطاباته، بينما كان يتفاداها حتى وقت قريب.

ولم يكتف الرئيس الإيراني بترداد تلك "المفردات الثورية" بغزارة خلال خطابه بالأمس، بل تجاوزها ومدلولاتها السياسية إلى التأكيد صراحة أن خلافات بلاده مع أميركا "ليست قابلة للتفاوض ولا المصالحة"، وأن "أي تراجع أمامها يعني التخلي عن جميع المكتسبات منذ قيام الحركة الدستورية حتى يومنا هذا". تلك المفردات والعبارات تؤكد "تصعيداً واضحاً" في خطاب "الرئيس المعتدل" أو "الشيخ الدبلوماسي" كما يلقّب في الداخل الإيراني، ضد الولايات المتحدة الأميركية ومن يدور في فلكها.

يأتي ذلك بينما يُعتبر روحاني من أبرز دعاة الدبلوماسية والتفاوض في إيران لحل مشاكلها الخارجية، وبالذات مع أميركا، باعتباره أبرز تلاميذ المدرسة السياسية للرئيس الإيراني الراحل هاشمي رفسنجاني، الداعية إلى الحوار والدبلوماسية لحل الخلافات الإيرانية الأميركية. وجسّد روحاني هذا التوجه السياسي من خلال كسر "تابو" التواصل والتفاوض مع الإدارة الأميركية، للمرة الأولى، بعد قيام الثورة الإسلامية في عام 1979، عبر خوض مفاوضات ماراثونية مع إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، إلى أن توصل معها إلى الاتفاق النووي في يوليو/ تموز 2015. هذا "التحول التصعيدي" في خطاب ومواقف "الشيخ الدبلوماسي الإيراني" يفتح الباب أمام تساؤلات عديدة عن الأسباب والدوافع، وهل أصبح روحاني محافظاً وأصولياً، وخلع عباءته الإصلاحية أو الاعتدالية؟ وفي الإجابة، إذا عدنا عشرة أشهر إلى الوراء، نجد أنه منذ انسحاب الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، من الصفقة النووية في مايو/ أيار 2018، طرأت تغييرات بالتدرج البطيء في خطاب روحاني الموجه للخارج، بدأت تتزايد أخيراً، ما يعني أن السبب الجوهري في ذلك يعود إلى الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي، الذي كان يُمثل أكبر إنجاز حققته حكومة روحاني، الذي أخرج البلاد من تحت الفصل السابع لمجلس الأمن، وأبطل مفعول 6 قرارات صادرة عن المجلس، وأنهى العقوبات الأممية والأميركية. لكن ترامب قضى على هذا الإنجاز بفعل الانسحاب من الاتفاق، وإعادة العقوبات. وكانت لهذا الإجراء ارتدادات داخلية ثقيلة، اقتصادياً وسياسياً. فعلى الصعيد الاقتصادي وجد الرئيس نفسه، ليس عاجزاً أمام تحقيق وعوده بتحسين معيشة الإيرانيين فحسب، وإنما يرى أنها أصبحت أسوأ من أيام حكومة خصمه اللدود الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد، والتي لطالما انتقدها روحاني على أدائها الاقتصادي. وعلى الصعيد السياسي أيضاً أحرجه الإجراء الأميركي أمام خصومه المحافظين بشكل كبير، وعرّضه لهجمات متلاحقة تتصاعد يومياً. بالتالي بات مفهوماً أن يعبر روحاني عن غضبه أكثر فأكثر إزاء إدارة ترامب عبر اختياره هذ النهج التصعيدي.



أما "التصعيد الثوري" فإنه لا يعني أن روحاني في انعطافة واستدارة نحو التيار المحافظ على حساب حاضنته الإصلاحية و"الاعتدالية"، لأن الرجل بينما يرفع نبرة التحدي بوجه أميركا، يخوض في الداخل، في الوقت ذاته، معركة شرسة مع خصومه السياسيين، وصلت إلى حد طرح موضوع استجوابه في البرلمان، أو المطالبة باستقالته، بسبب الخلافات على إدارة الوضع الاقتصادي في البلاد، وكذلك على ملفات تتصل بالسياسة الخارجية، على رأسها موضوع انضمام إيران إلى مجموعة العمل المالي الدولية "فاتف"، أملاً بأن يخفف هذا الانضمام القيود على المعاملات المالية لحكومته مع الخارج. وفي الإطار، هاجم معارضي الانخراط في "فاتف" قبل أيام، ما جلب عليه هجمات وانتقادات شديدة لم تنته بعد. وفي السياق نفسه، يمكن القول إن تصعيد روحاني خطابه ضد أميركا وحلفائها ليس بعيداً أيضاً عن معركته الداخلية مع خصومه السياسيين الذين يعتبرون أن سياسات الرئيس وحكومته، هي التي أوصلت البلاد إلى هذه الحالة الاقتصادية الصعبة. لكن على ما يبدو، فإن روحاني من خلال هذا التصعيد أراد توجيه الأنظار إلى أن السبب الرئيس هي الإدارة الأميركية وليس هو وحكومته، خصوصاً إذا استحضرنا اتهامات واجهها من التيار الأصولي خلال الفترة الماضية بالتهرب من مسؤولياته، عبر تحميل واشنطن مسؤولية ما آلت إليه أوضاع إيران الاقتصادية. وفيما تصاعدت انتقادات التيار المحافظ لسياساته الاقتصادية، قال روحاني، في يناير/ كانون الثاني الماضي، إنّ معظم المشاكل التي تواجهها إيران تعود إلى الضغوط التي تمارسها الإدارة الأميركية وأتباعها، مشدداً على ضرورة التنديد بالممارسات الأميركية والكف عن إلقاء اللوم على الحكومة الإيرانية.

من جهة أخرى، فإن السبب المحتمل الآخر أن هذا التصعيد من قبل روحاني قد يأتي في إطار استراتيجية "توحيد الخطاب" واتخاذ "وضعية الهجوم" في مواجهة أميركا في هذا الوقت الحساس، بحيث لا تخرج من إيران أصوات مختلفة. وعبرت عن هذه الوضعية ثلاث مناورات عسكرية أجرتها القوات المسلحة الإيرانية، من الحرس الثوري والجيش، إلى جانب تصريحات حادة لقادة عسكريين ورئيس مجلس الأمن القومي الإيراني علي شمخاني، خلال الفترة القليلة الأخيرة، ضد أميركا وحلفائها الإقليميين، خصوصاً إسرائيل والسعودية والإمارات. عموما أياً كانت دوافع روحاني في التحول من خطابه الدبلوماسي الناعم إلى خطاب ثوري هجومي في مواجهة من يعتبره أعداء إيران، فإن تأكيده أمس الأربعاء على أن الخلافات الإيرانية الأميركية ليست قابلة للتفاوض أو المصالحة يعني، بحد ذاته، أن "الشيخ الدبلوماسي الإيراني" قد فقد أمله في الدبلوماسية والتفاوض كالخيار الأنسب لحل نزاع مستمر منذ أربعة عقود بين الجانبين. وبذلك انضم إلى الصوت المحافظ الرافض من الأساس هذا الخيار في التعامل مع الأميركيين. كما أن ذلك يؤكد أن هذا النزاع انتقل إلى أعقد مراحله، وأنه مفتوح على جميع الاحتمالات، خصوصاً تلك التي تعتبر أكثر خطورة، وكانت مستبعدة حتى أمس القريب.