التجديد والترديد

13 ديسمبر 2019
فرح أتاسي/ سورية
+ الخط -

كان المفكّر الراحل نصر حامد أبو زيد يضع مفردة "الترديد" في مقابل مفردة "التجديد"، أو في التضاد معها من حيث المعنى ومن حيث الممارسة الفكرية والسياسية والاجتماعية؛ فالتجديد يعني تثوير الحياة العربية من جميع النواحي، بينما يعني الترديد إعادة إنتاج الماضي فقط، دون قبول الأفكار الجديدة، وقال إن الحصيلة النهائية للنهضة العربية كما سجّلها في كتابه "التجديد والتحريم والتأويل" هي أن حالةً من الركود قد سيطرت "في أفق الحياة العامّة في مجتمعاتنا، سواء في السياسة أو الاقتصاد أو التعليم... وطال العهد بها حتى أوشكت أن تتحوّل إلى موت".

اللافت أن "التجديد" كانت واحدة من المفردات المفتاحية في الفكر العربي، خاصة في النصف الأول من القرن العشرين، وسوف تجد عشرات الكتب والمقالات التي تحدثت عنه، أو دعت إليه. غير أن التجديد نفسه بدا وقد أُفرغ من محتواه، أو أن حركة تجديد الفكر العربي قد أفلسـت وباءت كل المشاريع التي هدفت للتقدّم بالفشل، أو أنَّ فاعليتها كانت ضئيلة، حتى أن المفكّر الراحل قال: "لا تغرنّك مظاهر حيوية وجزئية هنا أو هناك، في الفنون أو الآداب، فهي مجرد بقع ضوء في مساحات شاسعة للظلمة".

فلا تجديد الشعر أدّى لبث الروح في الحياة العربية، ولا تجديد الفكر استطاع أن يخرج العرب من التخلف، ولا كتابة الرواية ولا المسرح، ولا بناء بعض المعامل والمصانع، ولا امتطاء السيارات كان بوسعه أن ينتزع عقل القبيلة والعشيرة والعائلة من كثير من الأذهان العربية، ولا استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، ولا تواجد الكمبيوتر والإنترنت تمكّنا من زعزعة التقاليد التي تمنع البنات من التعليم، أو من حرية اختيار شريك الحياة. صورة شديدة البؤس والتشاؤم، فما السبب؟ ولماذا ظل الفكر يسأل مثل هذا السؤال؟ لماذا تقدّموا ولماذا تخلّفنا؟

اللافت أن الشعوب العربية التي ملأت الشوارع في العقد الثاني من قرننا الحالي، لم ترفع ذلك الشعار القديم، أي لم تطرح شعار التجديد، بل استبدلته بآخر وجدت أنه مفتاح التخلص من تلك المصائب التي جثمت على كاهلنا. إذ إن القضية عند العرب تتجاوز مسألة التجديد، كي تبدأ لحظة أخرى هي: التغيير.

وبقدر ما تولّد هذه المفردة الكمد والغيظ والغضب والرعب أيضاً لدى الحكّام. تثير الحلم والأمل لدى الملايين من البشر في عالمنا العربي، وقد باتت واحدة من أخطر المفردات التي ردّدها الناس في الشوارع والساحات والجسور العربية (بعد أن تحوّلت الجسور إلى مراكز لاستقرار الانتفاضات) في السنوات العشر الأخيرة من القرن الحادي والعشرين، حيث لم يعد يريد الناس تغيير العادات والتقاليد، ولا تبديل الملابس البدوية بالملابس الإفرنجية، ولا استبدال الجمل بالسيارة، ولا الطربوش بالقبّعة.

فالعلّة ليست في الطربوش، ولا في الجمل، ولا في العباءة، ولا في تقاليد الأعراس، بل في النظام السياسي ذاته الذي يستولد عقل العباءة، وتقاليد الطرابيش، ومنطق الجمل في الحياة العربية.

المساهمون