التاريخ المظلم لهيمنة الذكاء.. إبادة الأغبياء (3 - 3)

02 يونيو 2017
(الروبوت كيسمت، تصوير: جورج شتاينميتز)
+ الخط -

عادة ما يتمّ تعريف السير فرانسيس غالتون بـ منشئ القياس النفسي (علم قياس القدرات العقلية)، إذ ألهمه كتاب أصل الأنواع الذي كتبه قريبه تشارلز داروين. وقد قاد هذا غالتون للاعتقاد بأن القدرة الفكرية أمرٌ وراثي ويمكن تعزيزه من خلال التربية الانتقائية.

قرّر غالتون أن يجد طريقة ليحدّد أكثر أفراد المجتمع الذين لديهم قدرة فكرية بطريقة علمية، وتشجيعهم على التناسل مع بعضهم بعضاً. وحسب رأيهِ، فإن الأشخاص ذوي القدرات الفكرية الأقل، لا يجدر بهم التكاثر، بل يجب منعهم من أجل استمرار نوعنا. وهو ما أدى لاحقًا إلى ظهور علم تحسين النسل واختبارات الذكاء. في العقود التالية، تم تعقيم أعداد هائلة من النساء في أوروبا وأميركا بالقوّة بعد حصولهن على علامة ضعيفة في مثل هذه الاختبارات، ووصل عدد النساء إلى مئتي ألف في كاليفورنيا وحدها.

وقد استخدمت مقاييس الذكاء لتبرير بعض أفظع الأعمال البربرية في التاريخ. ولكن لطالما كان حكم العقل من ينتقده أيضًا. فمن ديفيد هيوم إلى فريدريك نيتشه، ومن سيغموند فرويد إلى ما بعد الحداثة، هناك الكثير من التقاليد الفلسفية التي تتحدّى فكرة أننا أذكى مما نود أن نعتقد، وتتحدّى فكرة أن الذكاء هو الفضيلة الأعلى.

لقد كانت الجدارة الفكرية دائمًا طريقة واحدة فقط لحساب للقيمة الاجتماعية إلا أنها كانت مؤثّرة للغاية. ويستند الدخول إلى بعض المدارس والمهن، مثل الخدمة المدنية في المملكة المتحدة، إلى اختبارات الذكاء، ولكن مجالات أخرى تؤكّد صفات مختلفة، مثل الإبداع أو روح الريادة. وعلى الرغم من أننا قد نأمل أن يكون موظفونا العموميون أذكياء، إلا أننا لا نختار دائمًا انتخاب أذكى السياسيين.

وبدلًا من تحدّي التسلسل الهرمي للذكاء على هذا النحو، ركز العديد من النقّاد على مهاجمة الأنظمة التي تسمح للنخبة البيضاء الذكورية بالظهور والحصول على أعلى الرتب. امتحان 11 Plus الذي سبق تقديمه، كان مثيرًا للاهتمام ومبهجًا عميقًا ومعبّرًا عن واحد من هذه الأنظمة. كان الغرض منه تحديد الشباب الأذكياء من جميع الطبقات والمعتقدات. ولكن، في الواقع، أولئك الذين اجتازوا الامتحان، كانوا كلّهم من الطبقات المتوسّطة البيضاء ذات الموارد الأفضل، التي وجد أعضاؤها أنفسهم يعيدون تطوير أنفسهم في مناصبهم ومصالحهم.

لذلك عندما نفكر في كيفية استخدام فكرة الذكاء لتبرير الامتياز والسيطرة خلال أكثر من ألفي سنة من التاريخ، أليس من المستغرب أن تملأنا الآفاق الوشيكة للروبوتات فائقة الذكاء بالفزع؟

من عام 2001 ومن أوديسا الفضاء إلى سلسلة أفلام المبيد، لقد تخيّل الكُتّاب وكتبوا حول ارتقاء الآلة وطغيانها ضدّنا. والآن يمكننا أن نرى السبب وراء ذلك. لأننا لو كنا معتادين على الإيمان بأن المناصب العليا في المجتمع يجب أن تذهب للأذكى، فسنعتبر أنفسنا "مفصولين من العمل" أمام الروبوتات فائقة الذكاء، وسيتمّ ارسالنا إلى أسفل الهرم (هرم الذكاء). وإذا كنا نؤمن بأحقية الأكثر ذكاء في استعمار الأقلّ ذكاء، فلا غرو ولا عجب إذن أن نخشى أن يتمّ استرقاقنا من الآلات فائقة الذكاء التي خلقناها نحن. وإذا كنا نبرّر مواقفنا الخاصّة حيال السلطة والازدهار بحكم فكرنا، فمن المفهوم أن نرى الذكاء الاصطناعي المتفوق تهديدًا وجوديًا.

يقول العالم التكنولوجيّ كيت كراوفورد أن هناك ما يفسر هذا الخطاب المتعالي لدينا، ذلك أن الخوف من الذكاء الاصطناعي الشرير يبدو سائدًا فقط بين الرجال الغربيين البيض. في حين أن المجموعات العرقية الأخرى قد تعرضت لتاريخ طويل من الهيمنة من قبل طغاة جعلوا من أنفسهم أسيادًا عليهم، بل وما زالت تقاتل ضد طغاة حقيقيين حتى اليوم. ولكن الرجال البيض اعتادوا أن يكونوا في القمة في كل شيء. وبالتالي، فإنهم سيفقدون الكثير إذا ما وصلت كيانات جديدة تتفوق في ذات المناطق التي استخدمت تمامًا لتبرير تفوق الذكور.

أنا لا أقصد أن أقترح أن كل قلقنا حول الذكاء الاصطناعي الشرير هو شيء لا أساس له من الصحّة. هناك مخاطر حقيقية مرتبطة باستخدام الذكاء الاصطناعي المتقدم (فضلا عن الفوائد المحتملة الهائلة). ولكن أن نتعرض للاضطهاد بواسطة الروبوتات بنفس الطريقة التي تعرّض فيها سكان أستراليا الأصليون للاضطهاد من المستعمرين الأوروبيين، ليس من ضمن المخاطر الرئيسية التي يجدر بنا أن نخاف منها.

علينا فعليًا أن نقلق حيال ما يمكن أن يفعله البشر حين يمتلكون هذا الذكاء الاصطناعي بدلًا من الذكاء الاصطناعي نفسه. ونحن كبشر، من المحتمل أن نجعل الذكاء الاصطناعي يقاتل بعضه بدلًا من أن نجعله معتمدًا على نفسهِ. وكما هو الحال في خرافة "صبي الساحر"، فإن الذكاء الاصطناعي إذا تسبّب بأي ضرر لنا، فمن الأرجح أن يكون هذا لأننا أعطيناهم حسن النيّة، ولكن بطريقة سيئة في التفكير للوصول إلى الأهداف، وليس لأنهم يرغبون في قهرنا. ولا يزال الغباء الطبيعي حتى الآن هو الخطر الأكبر الذي يهدّد وجودنا أكثر من الذكاء الاصطناعي.

من المثير للاهتمام التكهّن حول كيفية عرض نهوض الذكاء الاصطناعي إذا كان لدينا رأي مختلف عن الذكاء. اعتقد أفلاطون أن على الفلاسفة أن يسعوا لكي يصبحوا ملوكًا لأنهم بالعادة يدرسون ويتأملون كيفية السيطرة على الإنسان. وتقاليد أخرى مختلفة من الشرق، ترى أن الشخص الذكي هو ذلك الذي يزدري السلطة والشخص الذي يترفّع بنفسهِ عن التفاهات والقضايا اليومية التي تمس الناس العاديين.

تخيّل لو كانت هذه الآراء واسعة الانتشار: إذا اعتقدنا جميعا أن الناس الأكثر ذكاءً، ليسوا أولئك الذين يدّعون الحق في الحكم، ولكن أولئك الذين ذهبوا للتأمل في الأماكن النائية لتحرير أنفسهم من الرغبات الدنيوية؛ أو إذا كان الأكثر ذكاءً هم أولئك الذين عادوا لنشر السلام والتنوير. هل كنا لنخشى الروبوتات الأكثر ذكاءً منا؟

المساهمون