معجزة! لقد تمكنت من الانضمام إلى البعثة الآثارية التي تنقب عن الآثار في خرائب براقش بالجوف. لستُ عالم آثار، ولكن مكانتي الرفيعة كبروفيسور في كلية العلوم بجامعة صنعاء، وتذرّعي بتحليل عظام القدماء، ساهما في حصولي على التصريح الرسمي ووسمي كأحد أعضاء البعثة.
بدأنا موسم التنقيب في منتصف يناير/كانون الثاني، منتهزين فرصة الطقس المعتدل في الصحراء. وجدنا مذبحاً مرمرياً له رأس ثور، وفوقه حجر له شكل بيضة. فريق علماء الآثار المكوّن من الألمان والأميركيين جزموا بأنها حجر عادي لا يساوي شيئاً. احتفظتُ بالحجر، وفي غلس السحر، انطلقت بسيارتي عائداً إلى صنعاء مواصلاً السهر.
في تلك الليلة التي لم أذق خلالها طعم النوم، رتبتُ في ذهني الخطوات كلها التي ستبعثُ الحياة في البيضة الحجرية، وتؤكد للعالم أجمع أنها كائن فضائي، كان كامناً منذ ملايين السنين على سطح الأرض، كما بيّنت في نظريتي العلمية الثورية "ك.ك.ك.ح" أي الكمون الكوني للكائنات الحية.
اقرأ أيضًا: الروائي المخيب للآمال
أعطيتُ "الحجّار" صورة لمذبح مَعيني، نسبة لمملكة معين، وأمليتُ عليه المقاييس المضبوطة للتصميم، وبعد ستة أيام استلمتُ منه مذبحاً من الحجر البركاني الأسود المحبب "الحبش"، تشقّه من المنتصف قناة ضيقة تنتهي بنحت بارز لرأس ثور واسع العينين.
نصبتُ المذبح في المعمل الملحق ببيتي، ووجّهته باتجاه الشرق، وتحت نقرة رأس الثور وضعتُ البيضة في مدرة. لست بدائياً يعتنق عقائد وثنية لأحضر كبشاً وأذبحه، فهذه وحشية تعافها نفسي. لذلك عرضتُ التبرع بالدم اختيارياً، لأغراض علمية، على طلابي وطالباتي، فوجدتُ منهم تجاوباً كبيراً. ليلة تلو أخرى كنت أسكبُ الدم في المذبح ويجري منحدراً ببطء إلى الأسفل على البيضة الحجرية من دون أن يحدث أيّ شيء. ومع ذلك لم أيأس، لأن قلبي يُخبرني أنني في الطريق الصحيح، ولكن ثمة شيء ما ناقص.
زملائي الأساتذة في قسم علم الأحياء يتندّرون عليّ بمناداتي "البروفيسور عصا موسى" لأنني نشرتُ في صحيفة محلية دراسة تعجز العقول الباهتة عن فهمها، بسطتُ فيها نظريتي العلمية التي توصلتُ فيها إلى أن عصا النبي موسى عليه السلام التي فلق بها البحر وضرب بها الصخر وأبطل بها السحر لم تكن من أغصان الشجر، وإنما قضيباً من الحجر. ثم بينتُ بأدلة استقرائية أن تلك العصا ليست من صخور الأرض، ولكنها كائن فضائي أتى من أغوار سحيقة في الكون، من كوكب انهار نظامه البيئي فلم يعد صالحاً للحياة، ثم أنهى طوافه مستقراً في الأرض. آخرون، قبل موسى، رأوا العصا الحجرية وتحسسوها ولم يُلقوا لها بالاً، لكنه الوحيد من قاده إحساسه إلى التقاطها، فلم تُفارق يده منذ وجدها. ورداً على سؤال "هل توجد كائنات فضائية شبيهة بعصا موسى مبثوثة في كوكب الأرض؟" كان جوابي "نعم" بشكل قاطع.
اقرأ أيضًا: المزيف
وتطرقتُ إلى الصخور المريخية ذات الأشكال المألوفة للبشر، التي صوّرتها العربة "كيوريوسيتي روفر"، وأكدتُ أنها كائنات فضائية حية في حالة كمون قد تمتد لملايين أو مليارات السنين، إلى حين توفر الظروف الملائمة للحياة مجدداً على كوكب المريخ.
حتى كبار العلماء المتخصصين في الدراسات الفضائية، أفسدتهم أفلام الخيال العلمي الهوليوودية التي تصوّر الكائنات الفضائية على صورة الإنسان. كيف يمكن لكائن مثل هذا أن يسافر بين النجوم؟! الكائنات الفضائية طوّرت قابليات معينة تجعلها قادرة على التنقّل بين المجرات للبحث عن كواكب صالحة للحياة من دون حاجة إلى الهواء أو الماء أو الغذاء.
لقد ترجمتُ الدراسة المهيبة إلى اللغة الإنجليزية، وأرسلتها إلى مجلة "Nature" العلمية، ولكن المحرر المخبول الذي لا يملك خيالاً ولا حسّاً علمياً اعتذر عن نشرها. لقد طالبني بدليل علمي يُثبتُ صحة نظريتي، فأرسلتُ له رسالة غاضبة، وقلت له إنني سأعثر على أدلة وليس دليلاً واحداً، وحينذاك سأشهّر بجهله وانغلاقه العلمي في كل المحافل الدولية التي سأُدعى إليها مستقبلاً.
اقرأ أيضًا: ملكة البرتقال
نفد دم الطلبة ولم أصل إلى نتيجة. فلم أجد بُدّاً من تجريب طقس التضحية. اشتريتُ كبشاً واستدعيتُ جزاراً ليقوم بعملية الذبح. أعدتُ الكرة مرة أخرى وأشعلتُ بخوراً، وما من شيء يُفيد. تابعتُ تجاربي ولم أُحبط، وحصلتُ على احتياجاتي بالشراء من بنك الدم.
في منتصف العام خطرت ببالي فكرة، فغيّرتُ اتجاه المذبح إلى الشمال المغناطيسي. وفي اليوم التالي رحتُ أغسل البيضة الحجرية من الدم كالعادة، ولدهشتي البالغة رأيتُ أنها قد صارت زرقاء.
كان هذا أوّل دليل على صحة افتراضاتي العلمية الجسورة. استمررتُ في سقايتها بالدم يوماً إثر يوم وأنا أرصدها بدقة، مستخدماً ميزاناً حسّاساً لقياس الزيادة المطردة في وزنها، ومدوناً قياسات محيطها لتوثيق النمو المتسارع في حجمها. في اليوم الأربعين أصبحت بحجم يقطينة ضخمة. وفي لحظة طيش دعوتُ الصحفيين وأعلنتُ الأمر رسمياً. سمحتُ لهم أن يلتقطوا لها صوراً فكفّت فجأة عن النمو، وكأن تصرفي أسخطها. أثار الخبر ضجة عالمية، و
في ليلة داكنة أواخر شهر أغسطس/ آب، مررتُ بحادثة مرعبة، لم أجرؤ على إفشائها لأيّ إنسان. صحوتُ قرب الظهيرة وأنا أعاني من ألم حاد في رقبتي، وهالني أن شعر رأسي قد ابيضّ كله. وأما البيضة فقد تضاعف حجمها وصار ارتفاعها ثلاثة أمتار، وقدّرتُ أنها تزن طناً. لونها الأزرق ظلّ ثابتاً، ولكن سطحها اعترته نقاط سوداء.
أحدث التطور المفاجئ دوّياً في المعمورة، وفقدت السيطرة على الوضع. تمّ نقل البيضة الزرقاء بأوامر عليا إلى المتحف الوطني في حي "التحرير" ونُصبت في الباحة الأمامية.
سمحوا للملايين من السياح برؤيتها على الطبيعة، وأعطوهم الحقّ في لمسها واحتضانها، والتقاط الصور التذكارية معها، وأما أنا مالكها الأصلي فقد مُنعتُ من الدخول، وبالتالي من متابعة أبحاثي العلمية. لقد عاقبوني على تصريحاتي التي قلتها في لحظة رعونة بأن رئيس الجمهورية قد سرق بيضتي.
نشرتُ في غرة العام التالي كتاباً عنوانه "البيضة الزرقاء" حقق مبيعات عالية، أوضحتُ فيه أن الكواكب التي تفقد غلافها الجوي ولا تعود صالحة للحياة، لا ينقرض الأحياء فيها انقراضاً كلياً، وتبقى محتفظة ببذور كامنة لها نظام إيحائي سباتي يحميها من الانقراض النهائي، ويُعزز لديها فرصة متناهية الحدوث في أن تعود إلى الحياة فتتناسل وتتكاثر، ولو بعد مليارات السنوات. وهذه الكواكب عندما تضربها النيازك، تتطاير منها هذه البذور في الفضاء الكوني، وتسافر هذه المقذوفات مسافة ملايين السنوات الضوئية في اتجاهات عشوائية، وتلعب المصادفة دورها في انجذابها للرسو على هذا الكوكب أو ذاك. إنها بلياردو كونية تقف العقول البشرية أمامها حائرة برهبة.
اقرأ أيضًا: رامبو العالق في جيبوتي
ربما في فترة مبكرة من تاريخ البشرية، كانت الأرض غنية بالكائنات الفضائية المتحجرة، التي قام الإنسان البدائي باقتنائها، فأدرك خواصها المُغايرة لما يعهده في الطبيعة، فأُغرم بها وعبدها، وهي الأصنام الأصلية، لا النسخ المُقلّدة عنها التي ظهرت في أزمنة لاحقة.
إذا استطاع البشر امتلاك هذه التقنية "الكمون الكوني" فسوف يكون بإمكانهم استخدامها لغزو الكواكب الصالحة للحياة، واستيطانها وبث الحياة البشرية فيها. الرحلة التي تستغرق 400 مليون عام للوصول إلى كوكب تتوفر فيه شروط الحياة، سوف تصبح ممكنة. لا بدّ للبشر من اتخاذ الاحتياطات بكل جدية لمواجهة احتمال انقراض الحياة على كوكب الأرض في أية لحظة. لذلك فإن بثّ بشر وحيوانات على كواكب أخرى بتقنية "الكمون الكوني" وسيلة فعّالة للسماح بعودة هذه الأجناس إلى الحياة والتكاثر مرة أخرى في أجزاء عديدة من الكون.
غزت موضة "البيضة الزرقاء" زوايا الدنيا الأربع، وقامت المصانع بتصنيع ملايين النماذج منها وبمختلف الأحجام. النساء علّقنها على صدورهن بسلاسل ذهبية، والرجال زينوا بها مكاتبهم. النحاتون اعترتهم حمّى تجميل ميادين المدن ببيض أزرق مُنقط. انتشرت صورة "البيضة الزرقاء" على قمصان الـ "تي شيرت" وعلى القبعات والحقائب المدرسية، وكوشمٍ لعوب في أجساد الصبايا، وظهرت ماركة عطور فاخرة باسم "البيضة الزرقاء".
لا أحد توقع أن تفقس. لكنها فقست ظلالاً سوداء من دون أن يشعر بها أحد. لقد ضربت الكرة الأرضية موجة غير مسبوقة من العنف: الأبناء يقتلون آباءهم وأمهاتهم، والجيران يحرقون منازل جيرانهم، والسيارات المفخخة تحصد الأرواح في الشوارع المزدحمة، والانتحاريون يفجرون أنفسهم في أماكن الاحتفالات ودور العبادة وحفلات الأعراس. مليون قتيل في الشهر الواحد، ومعدلات الجريمة في ارتفاع جنوني. دبّت الفوضى أينما وضع الإنسان قدمه، وغرق العالم في العنف والدم.
لم يفطن أحد إلى أن بيضتي الزرقاء هي سبب البلاء! قابلتُ علماء في وكالة ناسا، واعترفتُ لهم بالحقيقة: قبل عام تقريباً، وعند الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، هاجمت منزلي زمرة من المتعصبين الملثمين، كنتُ وقتها في المعمل منكباً على تأليف كتابي. أمسكوا بي وطرحوني على المذبح، وأوكلوا إلى أحدهم مهمة حزّ عنقي. ورغم القناع فقد عرفته من صوته وهو يُكبّر، لقد كان الجزار الذي استعنتُ به في ذبح الأضحيتين. انتابتني مشاعر لا يمكن وصفها، وفي قلبي ناديتها. أصمّتْ آذاننا جلجلة لم نسمع لها مثيلاً من قبل، وصدرت عن الرجال الستة صرخات ألم عظيمة، وقد تعرضوا لقوّة جذب هائلة قلّصت أحجامهم وضغطتهم إلى ملليمترات ثم غابوا في جوف البيضة الزرقاء. وقتها كانت ما تزال بحجم اليقطينة وتخلو من النقاط السوداء.
وضع العلماء، بعد أن اقتنعوا بكلامي، خطة للخلاص من البيضة الزرقاء. صنعنا نسخة مُقلدة من البيضة الزرقاء، وتمّت عملية التبديل في صنعاء بسرية تامة، وحملتْ طائرة نقل عسكرية البيضة الزرقاء إلى قاعدة كاب كانافيرال بفلوريدا، ووضعت في مخبأ تحت حراسة مشددة.
تمكّنا بصعوبة من التغلب على القيود البيروقراطية في الميزانية، وانطلق صاروخ ساتورن 5 إلى الفضاء الخارجي، وهو يحمل حمولته، التي لم نعلن عنها، في كبسولة انفصلت عنه لاحقاً. وتم توجيه الكبسولة المزودة بمحرك دفع نفاث يعمل ببطارية نووية، للإبحار بعيداً عن نظامنا الشمسي.
بمجرد مغادرة الصاروخ ساتورن 5 الغلاف الجوي للأرض، انخفض معدل الجريمة إلى الصفر، ولم تعد تُسجل أية اعتداءات قتل أو عنف حول العالم. لقد حلّ السلام بصورة مدهشة.
استعنا بكومبيوتر متطور، وبعد حسابات معقدة، توصلنا إلى أن البيضة الزرقاء ستصل إلى النظام الشمسي لنجم "الشعرى اليمانية" في كوكب الكلب الأكبر بعد حوالي 600 مليون عام تقريباً، وربما تُلاقي هناك كوكباً صالحاً للحياة تهبط فيه. فكرنا في أنفسنا، ونحن نشعر بتأنيب الضمير، أن هذه لم تكن الهدية الأفضل التي نقدّمها نحن البشر سكان كوكب الأرض لمن يُشاركوننا الحياة في هذا الكون.
(كاتب يمني)
بدأنا موسم التنقيب في منتصف يناير/كانون الثاني، منتهزين فرصة الطقس المعتدل في الصحراء. وجدنا مذبحاً مرمرياً له رأس ثور، وفوقه حجر له شكل بيضة. فريق علماء الآثار المكوّن من الألمان والأميركيين جزموا بأنها حجر عادي لا يساوي شيئاً. احتفظتُ بالحجر، وفي غلس السحر، انطلقت بسيارتي عائداً إلى صنعاء مواصلاً السهر.
في تلك الليلة التي لم أذق خلالها طعم النوم، رتبتُ في ذهني الخطوات كلها التي ستبعثُ الحياة في البيضة الحجرية، وتؤكد للعالم أجمع أنها كائن فضائي، كان كامناً منذ ملايين السنين على سطح الأرض، كما بيّنت في نظريتي العلمية الثورية "ك.ك.ك.ح" أي الكمون الكوني للكائنات الحية.
اقرأ أيضًا: الروائي المخيب للآمال
أعطيتُ "الحجّار" صورة لمذبح مَعيني، نسبة لمملكة معين، وأمليتُ عليه المقاييس المضبوطة للتصميم، وبعد ستة أيام استلمتُ منه مذبحاً من الحجر البركاني الأسود المحبب "الحبش"، تشقّه من المنتصف قناة ضيقة تنتهي بنحت بارز لرأس ثور واسع العينين.
نصبتُ المذبح في المعمل الملحق ببيتي، ووجّهته باتجاه الشرق، وتحت نقرة رأس الثور وضعتُ البيضة في مدرة. لست بدائياً يعتنق عقائد وثنية لأحضر كبشاً وأذبحه، فهذه وحشية تعافها نفسي. لذلك عرضتُ التبرع بالدم اختيارياً، لأغراض علمية، على طلابي وطالباتي، فوجدتُ منهم تجاوباً كبيراً. ليلة تلو أخرى كنت أسكبُ الدم في المذبح ويجري منحدراً ببطء إلى الأسفل على البيضة الحجرية من دون أن يحدث أيّ شيء. ومع ذلك لم أيأس، لأن قلبي يُخبرني أنني في الطريق الصحيح، ولكن ثمة شيء ما ناقص.
زملائي الأساتذة في قسم علم الأحياء يتندّرون عليّ بمناداتي "البروفيسور عصا موسى" لأنني نشرتُ في صحيفة محلية دراسة تعجز العقول الباهتة عن فهمها، بسطتُ فيها نظريتي العلمية التي توصلتُ فيها إلى أن عصا النبي موسى عليه السلام التي فلق بها البحر وضرب بها الصخر وأبطل بها السحر لم تكن من أغصان الشجر، وإنما قضيباً من الحجر. ثم بينتُ بأدلة استقرائية أن تلك العصا ليست من صخور الأرض، ولكنها كائن فضائي أتى من أغوار سحيقة في الكون، من كوكب انهار نظامه البيئي فلم يعد صالحاً للحياة، ثم أنهى طوافه مستقراً في الأرض. آخرون، قبل موسى، رأوا العصا الحجرية وتحسسوها ولم يُلقوا لها بالاً، لكنه الوحيد من قاده إحساسه إلى التقاطها، فلم تُفارق يده منذ وجدها. ورداً على سؤال "هل توجد كائنات فضائية شبيهة بعصا موسى مبثوثة في كوكب الأرض؟" كان جوابي "نعم" بشكل قاطع.
اقرأ أيضًا: المزيف
وتطرقتُ إلى الصخور المريخية ذات الأشكال المألوفة للبشر، التي صوّرتها العربة "كيوريوسيتي روفر"، وأكدتُ أنها كائنات فضائية حية في حالة كمون قد تمتد لملايين أو مليارات السنين، إلى حين توفر الظروف الملائمة للحياة مجدداً على كوكب المريخ.
حتى كبار العلماء المتخصصين في الدراسات الفضائية، أفسدتهم أفلام الخيال العلمي الهوليوودية التي تصوّر الكائنات الفضائية على صورة الإنسان. كيف يمكن لكائن مثل هذا أن يسافر بين النجوم؟! الكائنات الفضائية طوّرت قابليات معينة تجعلها قادرة على التنقّل بين المجرات للبحث عن كواكب صالحة للحياة من دون حاجة إلى الهواء أو الماء أو الغذاء.
لقد ترجمتُ الدراسة المهيبة إلى اللغة الإنجليزية، وأرسلتها إلى مجلة "Nature" العلمية، ولكن المحرر المخبول الذي لا يملك خيالاً ولا حسّاً علمياً اعتذر عن نشرها. لقد طالبني بدليل علمي يُثبتُ صحة نظريتي، فأرسلتُ له رسالة غاضبة، وقلت له إنني سأعثر على أدلة وليس دليلاً واحداً، وحينذاك سأشهّر بجهله وانغلاقه العلمي في كل المحافل الدولية التي سأُدعى إليها مستقبلاً.
اقرأ أيضًا: ملكة البرتقال
نفد دم الطلبة ولم أصل إلى نتيجة. فلم أجد بُدّاً من تجريب طقس التضحية. اشتريتُ كبشاً واستدعيتُ جزاراً ليقوم بعملية الذبح. أعدتُ الكرة مرة أخرى وأشعلتُ بخوراً، وما من شيء يُفيد. تابعتُ تجاربي ولم أُحبط، وحصلتُ على احتياجاتي بالشراء من بنك الدم.
في منتصف العام خطرت ببالي فكرة، فغيّرتُ اتجاه المذبح إلى الشمال المغناطيسي. وفي اليوم التالي رحتُ أغسل البيضة الحجرية من الدم كالعادة، ولدهشتي البالغة رأيتُ أنها قد صارت زرقاء.
كان هذا أوّل دليل على صحة افتراضاتي العلمية الجسورة. استمررتُ في سقايتها بالدم يوماً إثر يوم وأنا أرصدها بدقة، مستخدماً ميزاناً حسّاساً لقياس الزيادة المطردة في وزنها، ومدوناً قياسات محيطها لتوثيق النمو المتسارع في حجمها. في اليوم الأربعين أصبحت بحجم يقطينة ضخمة. وفي لحظة طيش دعوتُ الصحفيين وأعلنتُ الأمر رسمياً. سمحتُ لهم أن يلتقطوا لها صوراً فكفّت فجأة عن النمو، وكأن تصرفي أسخطها. أثار الخبر ضجة عالمية، و
في ليلة داكنة أواخر شهر أغسطس/ آب، مررتُ بحادثة مرعبة، لم أجرؤ على إفشائها لأيّ إنسان. صحوتُ قرب الظهيرة وأنا أعاني من ألم حاد في رقبتي، وهالني أن شعر رأسي قد ابيضّ كله. وأما البيضة فقد تضاعف حجمها وصار ارتفاعها ثلاثة أمتار، وقدّرتُ أنها تزن طناً. لونها الأزرق ظلّ ثابتاً، ولكن سطحها اعترته نقاط سوداء.
أحدث التطور المفاجئ دوّياً في المعمورة، وفقدت السيطرة على الوضع. تمّ نقل البيضة الزرقاء بأوامر عليا إلى المتحف الوطني في حي "التحرير" ونُصبت في الباحة الأمامية.
سمحوا للملايين من السياح برؤيتها على الطبيعة، وأعطوهم الحقّ في لمسها واحتضانها، والتقاط الصور التذكارية معها، وأما أنا مالكها الأصلي فقد مُنعتُ من الدخول، وبالتالي من متابعة أبحاثي العلمية. لقد عاقبوني على تصريحاتي التي قلتها في لحظة رعونة بأن رئيس الجمهورية قد سرق بيضتي.
نشرتُ في غرة العام التالي كتاباً عنوانه "البيضة الزرقاء" حقق مبيعات عالية، أوضحتُ فيه أن الكواكب التي تفقد غلافها الجوي ولا تعود صالحة للحياة، لا ينقرض الأحياء فيها انقراضاً كلياً، وتبقى محتفظة ببذور كامنة لها نظام إيحائي سباتي يحميها من الانقراض النهائي، ويُعزز لديها فرصة متناهية الحدوث في أن تعود إلى الحياة فتتناسل وتتكاثر، ولو بعد مليارات السنوات. وهذه الكواكب عندما تضربها النيازك، تتطاير منها هذه البذور في الفضاء الكوني، وتسافر هذه المقذوفات مسافة ملايين السنوات الضوئية في اتجاهات عشوائية، وتلعب المصادفة دورها في انجذابها للرسو على هذا الكوكب أو ذاك. إنها بلياردو كونية تقف العقول البشرية أمامها حائرة برهبة.
اقرأ أيضًا: رامبو العالق في جيبوتي
ربما في فترة مبكرة من تاريخ البشرية، كانت الأرض غنية بالكائنات الفضائية المتحجرة، التي قام الإنسان البدائي باقتنائها، فأدرك خواصها المُغايرة لما يعهده في الطبيعة، فأُغرم بها وعبدها، وهي الأصنام الأصلية، لا النسخ المُقلّدة عنها التي ظهرت في أزمنة لاحقة.
إذا استطاع البشر امتلاك هذه التقنية "الكمون الكوني" فسوف يكون بإمكانهم استخدامها لغزو الكواكب الصالحة للحياة، واستيطانها وبث الحياة البشرية فيها. الرحلة التي تستغرق 400 مليون عام للوصول إلى كوكب تتوفر فيه شروط الحياة، سوف تصبح ممكنة. لا بدّ للبشر من اتخاذ الاحتياطات بكل جدية لمواجهة احتمال انقراض الحياة على كوكب الأرض في أية لحظة. لذلك فإن بثّ بشر وحيوانات على كواكب أخرى بتقنية "الكمون الكوني" وسيلة فعّالة للسماح بعودة هذه الأجناس إلى الحياة والتكاثر مرة أخرى في أجزاء عديدة من الكون.
غزت موضة "البيضة الزرقاء" زوايا الدنيا الأربع، وقامت المصانع بتصنيع ملايين النماذج منها وبمختلف الأحجام. النساء علّقنها على صدورهن بسلاسل ذهبية، والرجال زينوا بها مكاتبهم. النحاتون اعترتهم حمّى تجميل ميادين المدن ببيض أزرق مُنقط. انتشرت صورة "البيضة الزرقاء" على قمصان الـ "تي شيرت" وعلى القبعات والحقائب المدرسية، وكوشمٍ لعوب في أجساد الصبايا، وظهرت ماركة عطور فاخرة باسم "البيضة الزرقاء".
لا أحد توقع أن تفقس. لكنها فقست ظلالاً سوداء من دون أن يشعر بها أحد. لقد ضربت الكرة الأرضية موجة غير مسبوقة من العنف: الأبناء يقتلون آباءهم وأمهاتهم، والجيران يحرقون منازل جيرانهم، والسيارات المفخخة تحصد الأرواح في الشوارع المزدحمة، والانتحاريون يفجرون أنفسهم في أماكن الاحتفالات ودور العبادة وحفلات الأعراس. مليون قتيل في الشهر الواحد، ومعدلات الجريمة في ارتفاع جنوني. دبّت الفوضى أينما وضع الإنسان قدمه، وغرق العالم في العنف والدم.
لم يفطن أحد إلى أن بيضتي الزرقاء هي سبب البلاء! قابلتُ علماء في وكالة ناسا، واعترفتُ لهم بالحقيقة: قبل عام تقريباً، وعند الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، هاجمت منزلي زمرة من المتعصبين الملثمين، كنتُ وقتها في المعمل منكباً على تأليف كتابي. أمسكوا بي وطرحوني على المذبح، وأوكلوا إلى أحدهم مهمة حزّ عنقي. ورغم القناع فقد عرفته من صوته وهو يُكبّر، لقد كان الجزار الذي استعنتُ به في ذبح الأضحيتين. انتابتني مشاعر لا يمكن وصفها، وفي قلبي ناديتها. أصمّتْ آذاننا جلجلة لم نسمع لها مثيلاً من قبل، وصدرت عن الرجال الستة صرخات ألم عظيمة، وقد تعرضوا لقوّة جذب هائلة قلّصت أحجامهم وضغطتهم إلى ملليمترات ثم غابوا في جوف البيضة الزرقاء. وقتها كانت ما تزال بحجم اليقطينة وتخلو من النقاط السوداء.
وضع العلماء، بعد أن اقتنعوا بكلامي، خطة للخلاص من البيضة الزرقاء. صنعنا نسخة مُقلدة من البيضة الزرقاء، وتمّت عملية التبديل في صنعاء بسرية تامة، وحملتْ طائرة نقل عسكرية البيضة الزرقاء إلى قاعدة كاب كانافيرال بفلوريدا، ووضعت في مخبأ تحت حراسة مشددة.
تمكّنا بصعوبة من التغلب على القيود البيروقراطية في الميزانية، وانطلق صاروخ ساتورن 5 إلى الفضاء الخارجي، وهو يحمل حمولته، التي لم نعلن عنها، في كبسولة انفصلت عنه لاحقاً. وتم توجيه الكبسولة المزودة بمحرك دفع نفاث يعمل ببطارية نووية، للإبحار بعيداً عن نظامنا الشمسي.
بمجرد مغادرة الصاروخ ساتورن 5 الغلاف الجوي للأرض، انخفض معدل الجريمة إلى الصفر، ولم تعد تُسجل أية اعتداءات قتل أو عنف حول العالم. لقد حلّ السلام بصورة مدهشة.
استعنا بكومبيوتر متطور، وبعد حسابات معقدة، توصلنا إلى أن البيضة الزرقاء ستصل إلى النظام الشمسي لنجم "الشعرى اليمانية" في كوكب الكلب الأكبر بعد حوالي 600 مليون عام تقريباً، وربما تُلاقي هناك كوكباً صالحاً للحياة تهبط فيه. فكرنا في أنفسنا، ونحن نشعر بتأنيب الضمير، أن هذه لم تكن الهدية الأفضل التي نقدّمها نحن البشر سكان كوكب الأرض لمن يُشاركوننا الحياة في هذا الكون.
(كاتب يمني)