البوكوفسكيون العرب حياة لم نعشها

17 يوليو 2015
تشارلز بوكوفسكي (1920 - 1994)
+ الخط -

فجأةً، تحوّل تشارلز بوكوفسكي إلى ظاهرة في أوساط الشعراء العرب؛ إذ انهال المترجمون على قصائده، وراحوا ينقلونها إلى العربية.

إلى جانب الترجمة، ساهمت مواقع التواصل الاجتماعي في انتشار قصائد الشاعر الأميركي (1920 ـ 1994)، فلاقت رواجاً بين القرّاء والكتّاب الشباب تحديداً، لأسباب عدّة.

تحتوي كتابات بوكوفسكي تمرّداً على القيم الاجتماعية السائدة، وتتّسم بالجرأة التي تصل حدّ الفجاجة أحياناً، لما فيها من لغة نابية، بتنا نراها ونسمعها بصوته من خلال الفيديوهات المسجّلة للشاعر وهو يمتدح عزلته، مُبدياً "قرفه" من الناس، ولا يقطعه عن الحديث سوى رشفةٍ من زجاجة الجعة، أو نفَسٍ من سيجارته.

علاوةً على ذلك، تنتمي قصيدة بوكوفسكي إلى ما يُسمّى بـ"القصيدة اليومية"، التي ينزع كثيرون نحو كتابتها.

طبعاً، ظاهرة بوكوفسكي ليست الوحيدة في العالم العربي. فمن قبله، بين الأربعينيات والستينيات، عرف الشعر العربي تأثّراً كبيراً بالشاعر الإنجليزي تي. إس. إليوت، الذي بلغ ذروته في تجربة بدر شاكر السيّاب.

هذا ما يؤكّده الشاعر العراقي عمر الجفّال في حديثه لـ"العربي الجديد"، إذ يقول: "لا يبدو أن تقليد التجارب الشعرية ونسخها شيء جديد على الشعرية العربيّة.

ويضيف: "يمكن العودة إلى نسْخ "أناشيد مالدورور" للوتريامون في عقد الثمانينيات في العراق، وأيضاً إعادة نسخ تجربة محمد الماغوط في سورية وبلاد الشام. وهناك يانيس ريتسوس الذي أثّر، وأُعيدت كتابته، من قبل الشعراء اليساريين في المشرق العربي".
"بهذا المعنى، لطالما كانت الشعريّة العربيّة الحديثة تستنسخ التجارب وتنتج "شعراءً"، إلا أنّهم من النوع الذي سرعان ما يتّم تجاوزه" يستطرد الجفال.

من هنا، فإن انتشار بوكوفسكي بهذه الطريقة يعود إلى عدّة أسباب وفقاً للجفال: "فهو أوّلاً يمثّل طموح الشاعر الشاب في الانفلات من المجتمع والغرق في الكحول والعلاقات النسويّة والصعلكة. إلى جانب ذلك، فهو شاعر سهل، يمنح نفسه ببساطة للقارئ من دون الغور عميقاً في الصور المركّبة والإحالات. فضلاً عن هذا، فقد دخل بوكوفسكي من العالم الافتراضي، وأضيف إليه الفيديو عبر ترجمة قصائده، وهذه أسهل الطرق للانتشار اليوم".

ويرى الجفّال أن الإلحاح على ترجمة صاحب "طائر أزرق" هو مثلبة تؤخذ على المترجمين، واستسهال لعملهم؛ "إذ إن هناك تجارب كُبرى لم تترجم، مثل عزرا باوند وشيموس هيني، بسبب صعوبة شعريهما، بينما يتمّ الركض سريعاً إلى التجارب التي لا تكلّف تعباً وجهداً في البحث، ولقد رأينا كمّ الشعر الذي تَرجمه مشروع "كلمة"، وهو غالباً لشعراء يغرقون في البساطة والثرثرة".

يتّفق المترجم والشاعر الأردني، وليد السويركي، مع الجفّال في نقطة انجذاب الشباب إلى تجربة بوكوفسكي، إلّا أنّه يرى أنّه من المبكّر الجزم في ما إذا كانت هي ظاهرة، أم مجرّد "تقليعة" أدبية عابرة.

يقول: "قد تبدو تجربة بوكوفسكي مغرية وجاذبة للكثير من الشعراء الشباب، سواء بسبب طابعها الانتهاكي، الذي يستجيب لنزعة التمرّد لديهم (يقرّ أحد مترجميه إلى العربية بأنّه ليس بالكاتب الكبير وأن ما جذبه إليه هو حياته: السُّكْر والنساء والتهكّم واللامسؤولية)، أو بسبب بساطتها الأسلوبية وتقشّفها اللغوي (إلى حدّ الرداءة التي لم يكن يتنصّل منها هو نفسه)، ما يوحي بسهولة محاكاتها واستلهامها".

من جهةٍ أخرى، يُسائلُ السويركي مدى واقعية تجربة بوكوفسكي بالنسبة لنا، موضّحاً أن "الكتّاب يستعيرون ثيمات هذا الأخير وأسلوبه اللذين لا ينفصلان عن حياته الحقيقية، ويعملون على توظيفها في سياق ثقافي واجتماعيّ مختلف كلّياً؛ لنجد أنفسنا أمام نصوص باهتة، تفتقد صدق التجربة وحرارتها".

هكذا، بالنسبة للسويركي: "يتجلّى "بوكوفسكي العربيّ"، على الورق وصفحات الفيسبوك فقط، إذ من الممكن استعارة شكل أدبي أو ثيمة شعرية أجنبية، وربّما تقليد سلوك مبدعهما، لكن لا يمكن استعارة موهبته وحرارة تجربته وخبرته الشعورية".

وهذا أيضاً ما يؤكّده الشاعر الأردني محمّد عريقات، إذ يرى أن حياة بوكوفسكي مرتبطة بنصّه ارتباطاً وثيقاً: "لقد تأخّر نقل ما أنتجه بوكوفسكي إلى العربية. معظم الذين يقرأون نتاجه يتناولونه خارج سياق حياته وتفاصيلها. بوكوفسكي يكتب حياته، وتظل قراءته خارج هذا السياق قراءة ناقصة".

فالكحول والنساء، كما يوضّح عريقات، بعكس ما فهم الكثيرون من الكتّاب، ليسا شرطاً شعريّاً، والقصيدة لا تشترطهما: "بوكوفسكي كان يحب النساء بشراهة لجرح نرجسيّ سبّبنه له. لقد كان صاحب "العاهرة التي سرقت قصائدي"، مصاباً بمرض جلدي في وجهه، نفّر النساء منه، فانتقم لهذا الجرح. وأحبّ الكحول لأنّها كانت مهربه من مجتمعه المادي".

يتّخذ عريقات مثالاً لشاعر عربي، تزامن انتشاره أيضاً مع بوكوفسكي، وهو رياض الصالح الحسين (1954 ـ 1982)، الذي انكبّ كثير من الشعراء على قراءته، مُعجبين بتجربته، من دون أن ينتبهوا إلى أنّ الماغوط أثّر فيه كثيراً؛ "

"إلّا أنّ الحسين، استطاع أن يقترح قصيدةً خاصّة به، حوّلته إلى "أب"، إن صحّ التعبير، ولم يعمل على استنساخ تجربة الماغوط. الآن، نجد كتّاباً كثيرين، بسبب كسل موهبتهم، يعيدون كتابة الاثنين؛ الحسين وبوكوفسكي" يقول عريقات.

ساهم انتماء قصيدة بوكوفسكي إلى "القصيدة اليومية"، بانتشاره، حدّ استسهال كثير من الكتّاب لهذا النمط الشعري، ظنّاً منهم أنّهم يملكون في يومهم مادّة كبيرة تصلح لكي "تُشعرن".

ترى الشاعرة الفلسطينية أسماء عزايزة، أنّ "القصيدة اليومية" تعدّ من أكثر المساحات الشعريّة وعورةً؛ "لأن إنجازها بشعريّة عالية يشبه أن يجتاز الشاعر حقل ألغام. فهذا اللغم هو ما يشكل فارقاً جوهرياً بين القصيدة اليومية التي تمسّ أفكاراً وجودية وفلسفية، أو على الأقل غريبة وغير مألوفة، وبين الركاكة".

من هنا، تجد عزايزة أن بوكوفسكي "لم يقدّم قصيدة مختلفة النبرة واللغة والموضوع فحسب، بل أسّس، إلى جانب عدد آخر من الشعراء، ما سمّاه النقاد الأميركيون بـ الواقعية الوسخة".

وتردف:" في وصف هذه المدرسة الشعرية ما يدلّل على نقاش حقيقي في معنى الحداثة التي يقدّمها هذا العالم الشعري. ليس في مباشرة لغة القصيدة وبساطتها فحسب، إنما أيضاً في تفجيرها لأفكار تبدو عابرة أو مسلّم بها أو "يومية"، ولكنها تكشف عن بشاعة الواقع أو عن ألم عظيم لا تقوله القصيدة إلا في ما بين السطور".

المساهمون