البنوك المركزية تنقلب على النظام الرأسمالي

26 نوفمبر 2019
حفلات الأثرياء في حديقة سنترال بارك بنيويورك (Getty)
+ الخط -



كيف تشوّه السياسات النقدية "غير التقليدية" التي تنتهجها البنوك المركزية الكبرى منذ أزمة المال العالمية في عام 2008، النظرية الرأسمالية؟

سؤال شغل بال العديد من خبراء المال والاقتصاد العالمي، وهناك تساؤلات أخرى حول ما إذا باتت النظرية الشيوعية القائمة على توزيع الثروة تطبق على الأثرياء، والرأسمالية التي تُعنى بتنافس قوى السوق بحرية كاملة تطبق على الفقراء.

هذه السياسة النقدية ساهمت في زيادة عدد الأثرياء ونسبة ثرواتهم من إجمالي الثروة العالمية، حيث بلغ عدد الأثرياء لعام 2018، 2208 أشخاص، كما ترتفع ثروتهم بمعدل 2.5 مليار دولار يومياً بينما ارتفع عدد الفقراء وانخفض متوسط الدخول في العالم.  

ومنذ أزمة المال العالمية، تطوّع الحكومات وفي تحالف مع البنوك المركزية السياسات النقدية غير التقليدية التي تلطفها بمصطلحات "التيسير الكمي" و"التحفيز الاقتصادي" و"الفائدة الصفرية وتحت الصفر"، لمكافأة المضاربات المضرة التي ينفذها الأثرياء في أسواق المال، والتي عادة ما تخلق "فقاعة الأصول"، وتشوه الأسواق المالية وتحوّلها إلى "كازينوهات للمقامرة"، بدلاً من تحويل الأسواق إلى أدوات فاعلة في الاقتصاد لأداء وظائف توسيع الإنتاج وتوفير التمويل الرخيص لتطوير الأفكار الحديثة وتحويلها إلى منتجات.

بنك التسويات الدولية أو "بنك البنوك"، الذي يوجد مقره في مدينة بازل السويسرية، قال في دراسة حديثة، إن السياسات غير التقليدية النقدية التي طبقتها البنوك المركزية، وعلى رأسها مجلس الاحتياط الفدرالي "البنك المركزي الأميركي"، كإجراء طارئ لإنقاذ النظام المالي العالمي من الانهيار، نجحت في إنقاذ النظام المالي، ولكنها لم تنجح في إنقاذ الاقتصادات العالمية وإنعاشها، كما باتت سياسة ثابتة تعتمد عليها الدول في إنعاش الأسواق.

وتقوم "السياسة النقدية غير التقليدية" على ركيزتين وهما: سياسة "التيسير الكمي"، التي تقوم البنوك المركزية بموجبها بشراء "الأصول الخطرة" أو "السندات الفاسدة" من المؤسسات المالية مقابل ضخ أموال في محافظها. أما الركيزة الثانية، فهي خفض سعر الفائدة المصرفية، أو بلغة أخرى منح المصارف "أموالاً مجانية" بنسبة فائدة صفرية أو حتى دون الصفرية.

وتستهدف هذه السياسة إنعاش الاقتصاد عبر إتاحة الفرصة للبنوك التجارية منح القروض المصرفية بفائدة دنيا للأعمال التجارية والمستهلكين لتشجيعهم على الاقتراض، وبالتالي تنتعش الاقتصادات عبر تعزيز القوة الشرائية للمستهلكين وتوسع الأعمال التجارية، وتوفير وظائف جديدة للمواطنين. وحسب دراسة بنك التسويات الدولية، فإن السياسة النقدية غير التقليدية، نجحت في إنقاذ النظام المالي، ولكنها لم تنجح في إنعاش الاقتصادات العالمية وإعادتها للنمو الصحي.

ولكن ما حدث كان عكس ذلك تماماً، إذ استغلت المصارف التجارية الأميركية الأموال الرخيصة التي حصلت عليها من بنك الاحتياط الفدرالي في إقراض الدول الناشئة ومؤسساتها للحصول على أرباح مرتفعة.

وكانت أسعار الفائدة وقتها في الصين ودول آسيا وأميركا الجنوبية مرتفعة وتفوق نسبة 6.0%، مقارنة بنسبة الفائدة في أميركا التي كانت تتراوح بين 0.5% و0.75%. وبالتالي، حصلت هذه البنوك على أرباح عالية جداً من الإقراض قصير الأجل في الدول الناشئة وتركت أسواقها المحلية في الولايات المتحدة وأوروبا. وكانت النتيجة حدوث التباطؤ الاقتصادي الذي تعاني منه حالياً الدول الغربية الرأسمالية في أميركا وأوروبا واليابان.

من جهة ثانية، استغلت البنوك التجارية كذلك هذه الأموال المجانية في المضاربة على الأسهم وشراء الذهب والسلع. وكانت النتيجة الفقاعة المالية في الأصول بأسواق المال العالمية، وعلى رأسها سوق "وول ستريت".

في هذا الصدد، يقول نائب الرئيس السابق للبنك المركزي الأسترالي، ستيفن غرينفل، في مقال الأسبوع الماضي بموقع "بروجكت سيندكت"، إن "حجم القروض التي قدمتها المصارف التجارية في أميركا في الداخل كانت مخيبة للآمال، وكذلك في كل من دول الاتحاد الأوروبي واليابان".

من جانبها، تقول الاقتصادية البريطانية روس ألتمان، في تحليل على موقعها، إن سياسات البنوك المركزية أدت إلى فقدان الثقة في "النظام الرأسمالي" وأسس الاقتصاد الحر، وحتى في المؤسسات الديمقراطية التي بنيت عليها الحضارة الغربية. وتعزو الاقتصادية ألتمان فقدان الثقة في النظام الرأسمالي إلى السياسات النقدية غير التقليدية التي تكافئ الأثرياء على حساب الفقراء وطبقات المجتمع الأخرى.

وفي ذات الصدد، تشير التقارير الحكومية في أميركا، إلى أن الفجوة بين الفقراء والأغنياء قد ارتفعت في الولايات المتحدة، وذلك وفقاً للدراسة التي أصدرها مكتب التقييم الحكومي في سبتمبر/أيلول الماضي.

وفي الوقت الذي تزداد فيه فجوة الأصول في أميركا، تزداد ثروات الأغنياء، بسبب حصولهم على الأموال المجانية واعتماد السياسة على تمويل الأثرياء لحملاتهم الانتخابية. ويشترك في تمويل الحملة الانتخابية الرئاسية الأميركية التي ستبدأ في 2020 أكثر من مائة ملياردير، كما يخوضها حتى الآن ثلاثة مليارديرات.

وبناءً على أسس النظام الرأسمالي، كان يفترض أن تترك المؤسسات المالية الفاشلة للإفلاس، وبالتالي تعاقب بدلاً من منحها أموال الجماهير، أي توزع عليها الثروة، وهو ما يماثل "النظام الشيوعي" ويخالف نظرية السوق الحر القائمة على التنافس الحر بين قوى السوق.

وفي المقابل، فإن سياسة الفائدة الصفرية والتحفيز أو التيسير الكمي تعاقب الطبقات الوسطى وأصحاب المعاشات، عبر خفض العوائد على ادخاراتهم في البنوك، وتجمد رواتبهم وتسلب حقوق الفقراء في "دولة الرفاه".
المساهمون