البرلمان التونسي يعقد أولى جلساته اليوم: تشتت ومقايضات

13 نوفمبر 2019
لا اتفاق على رئاسة البرلمان (ياسين قايدي/الأناضول)
+ الخط -
تنطلق اليوم، الأربعاء، أولى جلسات البرلمان التونسي الجديد، ولن تكون الولاية النيابية الجديدة سهلة من كل الجوانب، إذ تواجه الأطراف السياسية الممثلة في مجلس النواب، برلماناً مشتتاً وانحساراً في حجم الكتل، ما يهدد استقرار العمل الحكومي والنيابي معاً وقد يؤدي إلى تعثّر في التوافقات، علاوة على تركة تشريعية ثقيلة من البرلمان المنتهية ولايته، ومشاريع قوانين أخرى تستوجب المصادقة العاجلة، على غرار مشروع قانون المالية. وخلافاً للولايتين البرلمانيتين السابقتين، فإن هذه الولاية تتسم بتشتت البرلمان إلى كتل متعددة متوسطة وصغيرة الحجم. وتعد كتلة "النهضة" الأكبر باثنين وخمسين نائباً، تليها كتلة "قلب تونس" بثمانية وثلاثين نائباً، لتحل كتلة "التيار الديمقراطي" في المرتبة الثالثة باثنين وعشرين نائباً، وكتلة "ائتلاف الكرامة" بواحد وعشرين نائباً، فيما تضم مجموعة "الدستوري الحر" سبعة عشر نائباً، ثم حركة "الشعب" ستة عشر نائباً، فكتلة "الإصلاح الوطني" (خمسة عشر نائباً)، وتضم في صفوفها بقايا "نداء تونس" و"آفاق" و"المشروع" و"البديل" ومستقلين، وتعد كتلة "تحيا تونس" الأصغر حجماً بأربعة عشر نائباً.

وفيما تميّز البرلمان الماضي بوضوح التركيبة، بحيازة "نداء تونس" المرتبة الأولى بسبعة وثمانين نائباً، وحركة "النهضة" المرتبة الثانية بتسعة وستين نائباً، ومعارضة برلمانية صغيرة الحجم، فإن هذا المجلس لم تتضح فيه كتل الحكم، من كتل المعارضة المنقسمة بدورها إلى معارضات. ولن يقود هذا التشتت إلا إلى انعدام الاستقرار وصعوبة تمرير مشاريع القوانين.

وجمع البرلمان الحالي في صفوفه الأضداد المتخاصمين تاريخياً، ففي صفوفه رئيس "النهضة" راشد الغنوشي، وزعيمة الحزب "الدستوري الحر" عبير موسي، التي تمثل انعكاساً لصورة حزب "التجمّع" وتواصلاً له وعودته من باب السلطة التشريعية إلى الحكم. وعلى المقاعد نفسها، تجلس أيضاً قيادات "قلب تونس" ومؤسسين سابقين في "نداء تونس" إلى جانب ممثلي حزب "تحيا تونس"، سليل "النداء" الذي تجمعه عداوة برئيس "قلب تونس" نبيل القروي. وفيما عاد "التيار الديمقراطي" بسبعة أضعاف عدد نوابه سنة 2014، ترافقه حركة "الشعب" بثمانية أضعاف حجمها الماضي، بينما غابت "الجبهة الشعبية" واندثرت ولم يعد يمثلها إلا نائب وحيد عن "الوطنيين الديمقراطيين"، رئيس لجنة المالية سابقاً، المنجي الرحوي.

وبهذه التركيبة، تُفتتح الجلسة العامة الأولى للولاية النيابية الجديدة، والتي عليها انتخاب رئيس للبرلمان ونائبيه، وفق الفصل التاسع والخمسين من الدستور. وتبدو المهمة عسيرة، فلا وجود لكتلة نيابية ذات أغلبية مطلقة من الأصوات يمكنها تمرير مرشحها لرئاسة البرلمان من دون توافقات، ويتحتم على المرشحين المرور بهذه المرحلة لزاماً، بالتوازي مع مفاوضات تشكيل الحكومة التي ألقت بظلالها على هذا الحدث.

ورشحت "النهضة" رئيسها راشد الغنوشي لرئاسة البرلمان، وهي خطوة كانت منتظرة ومتوقعة منذ تقديم الغنوشي ترشحه للانتخابات التشريعية. وخالفت نتائج الانتخابات توقعات الحزب الفائز، فلم يحصل على العدد المطلوب لتمرير مرشحه من دون توافق عريض وتنازلات هامة. وذهبت كل المؤشرات في الأيام الماضية إلى أن هذا الترشح يستوجب مفاوضات ومقايضات حتى لا يُمنى الغنوشي بهزيمة في انتخابات رئاسة البرلمان. ويرفض الحزب صاحب المرتبة الثانية في الانتخابات، "قلب تونس"، هذا الترشح، وقال القيادي في الحزب عياض اللومي، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن "قلب تونس" معني برئاسة البرلمان أيضاً ولا يمكن أن يسمح بتغوّل "النهضة" وهيمنتها على رئاسة السلطتين التنفيذية والتشريعية، في حين لم تسند لها الانتخابات التشريعية هذا الوزن في البلاد. ويرشح "قلب تونس" النائب رضا شرف الدين لرئاسة البرلمان، "لما عُرف به من أداء متميز في البرلمان المنتهية مدته، إضافة إلى خبرته وحنكته باعتباره أكبر نواب نداء تونس سناً"، فيما لم يحدد الحزب بعد مرشحه للجنة المالية التي تعد من نصيب المعارضة وفق الدستور، على حد تعبير اللومي.


ويُعدّ النائب عن "التيار الديمقراطي" غازي الشواشي من بين المرشحين الأوفر حظاً لرئاسة البرلمان وإن لم يكن حجم كتلته يسمح بفوزه، لكن كل مؤشرات المفاوضات الحكومية تشير إلى استعداد "النهضة" للتنازل عن هذا المنصب للتيار إذا ما خفّض من سقف شروطه للتحالف والحكم معها، إضافة إلى ضرورة التشارك في العمل البرلماني حتى تتمكن من تمرير مشاريع القوانين اللازمة للعمل الحكومي والتي تُترجم توجّهات "النهضة" ووعودها الانتخابية.

ويجد ترشح الشواشي قبولاً مبدئياً من كتلة حركة "الشعب"، وذلك في إطار مفاوضات العودة إلى البرلمان بكتلة موحّدة (بين التيار الديمقراطي والشعب) يكون مرشحها الشواشي لرئاسة البرلمان. وتعود فكرة الكتلة الموحّدة بالنفع على الحزبين إذا ما نجحا في ترجمتها. وإذا ما قرر الحزبان البقاء في المعارضة لتعثّر مشاورات الحكم فإن الكتلة الموحدة تعادل حجم كتلة "قلب تونس"، ما يجعلها مؤهلة لرئاسة اللجنة المالية أيضاً، وقد يُحسم الأمر لصالحها في ظل بوادر انضمام مستقلين إلى صفوفها. وما تزال المفاوضات، وفق ما يقول القيادي في حركة "الشعب" النائب عنها سالم لبيض لـ"العربي الجديد"، مستمرة وسط تضافر الجهود لتوحيد المواقف، وإذا ما تعثرت هذه المساعي فإن الحركة ستقدّم آنذاك مرشحاً من نوابها لهذه المهمة.

وبينما لم تعلن الأحزاب الممثلة في البرلمان رسمياً عن رؤساء كتلها البرلمانية، فإن مصادر من داخلها أكدت لـ"العربي الجديد" أن رئيس كتلة "النهضة" في الولاية الماضية نور الدين البحيري سيتقلّد المنصب نفسه، على الرغم من مطالبات عديدة باختيار رئيس جديد للكتلة، فيما سيتولى رئيس كتلة "نداء تونس" سابقاً سفيان طوبال رئاسة كتلة "قلب تونس". أما "التيار الديمقراطي" فسيرشح أمينه العام السابق غازي الشواشي لهذا المنصب، بينما زهير المغزاوي سيكون رئيساً لكتلة "حركة الشعب" إذا ما أخفقت مساعي الجمع. ويرشح مسؤولو حزب "تحيا تونس" القيادي الهادي الماكني لترؤس مجموعته النيابية، منهين بذلك ولاية مصطفى بن أحمد. وكانت كتلة "الإصلاح الوطني" قد أعلنت أن الأمين العام لـ"مشروع تونس" حسونة الناصفي هو رئيسها، بينما اعتبرت قيادات من "الدستوري الحر" أنه من الطبيعي أن تكون رئيسة الحزب هي رئيسة الكتلة أيضاً. أما كتلة "ائتلاف الكرامة" فقد اتفقت وفق مشاورات مبدئية على تولي سيف الدين مخلوف رئاستها.

وتنتظر النواب فور شروعهم في العمل البرلماني، حزمة من مشاريع القوانين المحالة من البرلمان السابق، في مقدمتها مشروع قانون المالية. ونظراً لاستحالة تشكيل اللجان البرلمانية قبل انعقاد جلسة منح الثقة للحكومة التي تتحدد وفقها كتل الحكم والمعارضة حسب ما جاء في الدستور، يصبح المجلس أمام حلَّين: إما تنفيذ مشروع المالية في ما يتعلق بالنفقات بأقساط ذات ثلاثة أشهر قابلة للتجديد بمقتضى أمر رئاسي، أو تشكيل لجنة مؤقتة للمالية، وهو الحل الذي اعتُمد في الولاية الماضية، تكون مهمتها النظر في مشروع قانون المالية وتُحل بانتهاء مناقشتها له وإحالة تقريرها إلى الجلسة العامة.

ولا تنتهي التركة البرلمانية الماضية عند ذلك، فمشاريع قوانين أساسية تنتظر المشرّعين الجدد، من بينها مشروع قانون الطوارئ، ومشروع قانون متعلق بجهاز الاستعلامات، وكلاهما أساسيان في سياق مكافحة الإرهاب والجريمة المنظّمة والعابرة للحدود. بالتوازي مع ذلك، أخفق البرلمان المنتهية ولايته في البت في مشاريع متعلقة بالحقوق والحريات، كمشروع قانون الاتصال السمعي البصري، ومجلة الحقوق والحريات الفردية التي تعد الأكثر إثارة للجدل باعتبارها نتاجاً لعمل لجنة أوكل إليها الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي صياغة التوجّهات التشريعية في باب الحقوق والحريات سنة 2018. وجاءت فصول مقترح المجلة حاملة لنَفَس تحرري لاقى معارضة واسعة في صفوف الأحزاب اليمينية.

ولا ينتهي إرث البرلمان المنقضية ولايته عند هذا الحد، فأولى مهمات المجلس المنتخب حديثاً تتمثّل في التوافق على ثلاثة أعضاء من المحكمة الدستورية، وتجديد ثلث أعضاء الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، وانتخاب أعضاء الهيئة الدستورية لحقوق الإنسان وهيئة مكافحة الفساد وهيئة التنمية المستدامة والأجيال المقبلة، وإرساء الهيئة الدستورية العليا للاتصال السمعي البصري. وتمثّل هذا الهيئات ركناً أساسياً في استكمال الانتقال الديمقراطي وإرساء المؤسسات الدستورية، وهي مهمات أخفق البرلمان السابق في إنجازها واستكمالها ومثّلت نقطة سوداء في تاريخه.